هند مطر

منتدى الشطرنج الأخير في نيويورك وصديق جرذان المدينة الراعبة

14 نيسان 2022

02 : 00

آخر منتدى في المدينة التي لا تنام

زيارة منتدى الشطرنج الأخير في نيويورك تُشبه إلى حد بعيد الترنّح في منزل آخر جد مُريح من المُرجّح أن تُصادفه في هذا العالم البارد والمُضطرب في كثير من الأحيان. وهي أيضاً زيارة رجل خمسيني وقور يُرحّب بعشّاق هذه اللعبة التي تتربّص خلف خطواتها الإستراتيجيّة عشرات الدروس التي تُلخّص لعبة الحياة، بمحبة لا مكان لها في المدينة الشاهقة في عظمتها. الشاهقة في قسوتها.

رجل يُقفل المنتدى في ساعات مُتقدمة من الليل ويسير إلى منزله ببطء لكي يُطعم كل الذين لا مأوى لهم. يُدردش معهم ويدعوهم إلى منتدى الشطرنج القائم في شارع طومسون التاريخي متى شاؤوا، ليُحاربوا القدر من خلال اللوحة أو ليجلسوا بلا هدف بحثاً عن القليل من الأمان وهم يُدركون أن ثمة من يراهم ويشعر بهذا الإنكسار الجميل الذي يعيشونه.

وهو يعرف جيداً أن الجرذان الراعبة التي تقطن المدينة البعيدة المنال تحوّلت صديقة لياليه والشاهدة على قصصه الصغيرة مع هذه النيويورك التي يُريد بأي ثمن أن يعيش فيها إلى الأبد. وأن يمشي الهوينى في شوارعها بعد مماته، شبحاً عتيقاً، لا يُخيف سكّانها، بل يُرشدهم ويُهدهد خيباتهم تماماً كما يفعل يومياً في المنتدى منذ أكثر من 26 عاماً.

يضحك عماد خشّان في حديث معه إلى نيويورك ويقول لي بلهجته الفلسطينيّة التي لم تختفِ بعد مرور 30 عاماً في الولايات المتحدة ، "أنا منبوذ بين هذه الجدران منذ عشرات السنين. لقد تركني القدر بمفردي. وأعتقد أن حتى النسيان نسيني".

ترعرع عماد الفلسطيني الأصل في لبنان، وخلال الحرب الأهلية التي استمرت زهاء 15 عاماً، غالباً ما كان يرى أولاد الحي يهربون من أصوات القنابل والموت من خلال لعبة الشطرنج. فإذا بفضوله ينمو ويدفعه إلى الإقتراب من اللوحة الخشبيّة التي تحوّلت مع مرور الأيام رفيقة كل الأيام، ليفهم سرّها وسحرها المُراوغ.

كما أن والده الروائي الراحل وأستاذ مادة الأدب العربي، محمد خشان، كان يمضي الليالي الطويلة المُسيّجة بالرعب وهو يخوض حروبه الداخليّة على لوحة الشطرنج مع صديق له إعتاد أن يتنقل بين المناطق تحت القنابل ليحاول أن يهزم صديقه "أبو عماد"، حتى بزوغ الفجر واستراحة القنابل من عزفها اليومي.

"والدي كان قاسياً في ما يتعلق بالأنشطة الثقافية التي كنا ننغمس فيها في المنزل. لم يسمح لنا، أنا وأخوتي الـ8، بلعب الورق أو حتى مشاهدة البرامج التلفزيونيّة".

ولكن لعبة الشطرنج كانت مسألة مختلفة.

وعندما هاجر عماد إلى نيويورك في العام 1987 ليُشارك في برنامج الدكتوراه في جامعة نيويورك، بدأ يعمل، وفي موازاة لدراسته، في متجر متخصص في بيع أدوات الشطرنج في حيّ "سوهو" القائم في مانهاتن. وسُرعان ما تمت ترقيته لمنصب المدير.

وبدأ عندئذٍ حياكة الأسطر الأولى لقصة ما زالت مُستمرة منذ 26 عاماً.



عماد خشان رفيق الذين قست عليهم الأيام


وقرر خشان ذات يوم ألّا يُكمل دراسته وأن يفتتح منتدى للشطرنج خاصاً به ليُعيد إلى اللعبة الأسطوريّة رونقها وأطلق عليه اسم Chess Forum.

زيّن الفسحة الحميميّة بأسلوب يغمز إلى المنازل القرويّة التي تكثر فيها الجمعات المُحببة وحيث تتحوّل اللقاءات حول لوحة الشطرنج قصة حُب يحتمي بين دفتيّها كل الذين يبحثون عن عائلة ويُريدون بأي ثمن الإنتماء إلى جماعة يُحاربون من خلالها قسوة نيويورك وتهذيبها البارد والخالي من الإلفة.

ديكور يهتف على طريقته، "القليل من العاطفة أيها الأصدقاء".

ومنذ اليوم الأول له في المنتدى الشهير في شارع طومسون وعماد يُردد للزوّار، "رجاءً، تصرّفوا وكأن المكان منزلكم".

وكانت مسألة طبيعيّة، في السنوات الأولى، أن يفتح المكان 24 ساعة، وأن يزوره المشاهير أمثال ليلي تايلور، ريتشارد غير، جوليا روبرتس، بينجامين برات، ليف تايلر، ستون فيليبس، ديان لاين، جوش برولين، والموسيقي الشهير دايفيد لي روث الذي قال ذات يوم بهدوء لأحد المعجبين الذي فوجئ به وهو يلعب إلى جانبه بصمت وتركيز، "هنا في المنتدى أنا واحد منكم. هنا أنا دايفيد فحسب".

عماد خشان يشعر بفخر كبير لأنه تمكّن مع مرور الأيام من أن يبني مجتمعه الخاص داخل الفسحة الحميمية التي يشعر كل من يزورها بأن هذا الرجل الخمسيني الوقور الذي لا عائلة له هو أشبه بأب للجميع. وغالباً ما يتوسّل بحساباته الشخصيّة عبر مواقع التواصل الإجتماعي ليُسلّط الضوء على كبار اللاعبين الذين قست عليهم الأيام وهم يعيشون تقلبات الزمان وهجرة فراشاته. ولأن جائحة كوفيد أثرت إقتصادياً على المنتدى تماماً كما فعلت مع مختلف القطاعات، إجتمع عشرات المشاهير والنجوم ليُنقذوا منتدى الشطرنج الأخير في نيويورك، حيث الأمان والشعور بالإنتماء.

وحيث يستقبل الزوّار رجل خمسيني وقور يسير ببطء إلى منزله مساءً بعد إقفال المنتدى ليُطعم الفقراء، وهو يعرف جيداً أن جرذان المدينة الراعبة تُرافقه وهي صديقة وحدته القديمة.


MISS 3