جون شوارتز

الإبادة الأرمنية تحمل درساً مريراً لكل من يبكي على أوكرانيا

22 نيسان 2022

المصدر: The Interpreter

02 : 05

تظاهرات للجالية الأرمنية أمام السفارة التركية بواشنطن

إذا أردنا التكلم عن موقف شائع وسط حكومات أوروبا والولايات المتحدة، فيمكن التأكيد على استيائها من الوحشية الروسية في أوكرانيا. وضع الرئيس جو بايدن ما يحصل في خانة "الإبادة الجماعية" في أحدث مواقفه. قال متحدث باسم مجلس الأمن القومي إنه يسعى إلى "تحديد هوية الروس المسؤولين عن الأعمال الوحشية وجرائم الحرب المرتكبة حتى الآن". أعلن المستشار الألماني، أولاف شولتس، من جهته أن عمليات قتل المدنيين في مدينة "بوتشا" هي "جرائم حرب لن نقبل بها... يجب أن يُحاسَب مرتكبو هذه الأعمال". أما رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، فقال: "لن نرتاح قبل تحقيق العدالة".

لكن تكشف التجارب التاريخية أن هذا النوع من الخطابات هو الأكثر فراغاً من حيث المضمون. يصعب أن نجد أي أمثلة على حكومات تضحّي بأهدافها خدمةً لمصالح الشعوب في دول أخرى. بل إن الحكومات تعتبر معاناة الأجانب مفيدة لتحقيق غاياتها الدعائية (أي تحفيز المواطنين فيها وإظهار الأعداء بصورة سيئة)، لكن تخسر هذه المعاناة أهميتها بالكامل في الحالات الأخرى.

تجسّد قصة مؤثرة حصلت منذ مئة سنة هذه الحقيقة بأقسى الطرق الممكنة. بقيت هذه القصة مجهولة بشكلٍ شبه كامل حتى الآن لأنها لا تناسب أصحاب النفوذ.

حين اندلعت الحرب العالمية الأولى في تموز 1914، حصلت المواجهة بين قوات الحلفاء من جهة (أبرزها الإمبراطوريات الفرنسية والبريطانية والروسية)، ودول المحور (الإمبراطوريات الألمانية والمجرية – النمسوية والعثمانية) من جهة أخرى.

في بداية القرن العشرين، انكمشت السلطنة العثمانية وباتت تشمل تركيا بشكلها الراهن ومعظم المساحات المعاصرة في سوريا، لبنان، العراق، الأردن، إسرائيل وفلسطين، بعدما كانت تمتد إلى جنوب شرق أوروبا وشمال أفريقيا. وبعد اكتشاف النفط في الشرق الأوسط، بدأت إمبراطوريات أخرى، لا سيما فرنسا وبريطانيا، تهتم بانتزاع المزيد من الأراضي العثمانية.

سيطرت سلطة ثلاثية تُعرَف باسم "الباشوات الثلاثة" على السلطنة العثمانية غداة انقلاب في العام 1913، قبيل الحرب العالمية الأولى مباشرةً. وفي العام 1915، تزامناً مع احتدام الحرب، ارتكب الباشوات واحدة من أكبر الجرائم في التاريخ: الإبادة الأرمنية.

شكّل الأرمن العثمانيون أقلية سكانية واقتصر عددهم على مليونَي مسيحي تقريباً كانوا يعيشون في سلطنة مسلمة رسمياً. الأهم من ذلك هو أن الباشوات الثلاثة كانوا يخشون أن يحاول الأرمن الانفصال عنهم لإنشاء بلد مستقل وخاص بهم. برأي واحد من الباشوات الثلاثة، وهو طلعت باشا، كانت السلطنة العثمانية "تستفيد من الحرب لتصفية أعداء الداخل". تعرّض الأرمن لمجزرة جماعية بالرصاص أو طُرِدوا إلى بادية الشام ليهلكوا هناك. مات حوالى مليون شخص في نهاية هذه الحقبة. كتب دبلوماسي أميركي في تركيا كان قد شهد على الإبادة الجماعية مباشرةً أنه "متأكد من أن تاريخ الجنس البشري كله لم يشمل هذا الشكل المريع من الأحداث". اعتبر أدولف هتلر هذه الممارسات لاحقاً سابقة لارتكاباته الخاصة.

لم تكن أيٌّ من هذه الأحداث سرية عند وقوعها، بل العكس صحيح. حين بدأت الإبادة الجماعية، أعلنت الحكومات البريطانية والفرنسية والروسية موقفاً مشتركاً: "نظراً إلى تلك الجرائم الجديدة التي ترتكبها تركيا ضد الإنسانية والحضارة، تعلن حكومات قوات الحلفاء... أنها ستُحَمّل مسؤولية هذه الجرائم لجميع أعضاء الحكومة العثمانية شخصياً". كذلك، أجرى عضو بارز في مجلس اللوردات البريطاني تحقيقاً حول هذه المسألة وكتب في العام 1915 أن "التاريخ يخلو من هذا النوع من الجرائم المشينة والواسعة في نطاقها، أقلّه منذ عصر تيمورلنك". في الوقت نفسه، امتلأت الصحف البريطانية والفرنسية بمواقف الاستنكار ضد الأتراك المتوحشين مقابل الإشادة بالشعب الأرمني الشجاع.

لكن إليكــم ما كــان يحصــل وراء الكواليس:

في كانون الأول 1915، أوفد جمال باشا، وهو عضو آخر من "الباشوات الثلاثة"، مبعوثاً إلى معسكر قوات الحلفاء المشارِك في الحرب وأرسل معه عرضاً استثنائياً. فأخبرهم بأن جمال باشا يرغب في تنظيم انقلاب لإسقاط الباشوَين الآخرَين والاستيلاء على كامل مقاليد السلطة بنفسه. إذا دعمت فرنسا والمملكة المتحدة وروسيا خطته وقدّمت الدعم المالي للسلطنة العثمانية، كان لينسحب من الحرب ويضع حدّاً للإبادة الأرمنية.

كان شرطه الآخر الوحيد يتعلق بتخلي فرنسا والمملكة المتحدة عن أي مطالبات بأراضي السلطنة العثمانية في الشرق الأوسط.

لكن كان هذا الشرط أكبر خطأ ارتكبه. في هذا السياق، يكتب المؤرخ ديفيد فرومكين في كتابـه الشهيـــرA Peace to End All Peace: The Fall of the Ottoman Empire and the Creation of the Modern Middle East (سلام لإنهاء كل سلام: سقوط السلطنة العثمانية ونشوء الشرق الأوسط الحديث): "يبدو أن جمال باشا اتخذ هذه الخطوة انطلاقاً من فرضية خاطئة مفادها أن إنقاذ الأرمن هو هدف أساسي لقوات الحلفاء، بدل أن يدرك أن هذا المعسكر كان يستغل محنة الأرمن بكل بساطة لتحقيق غاياته الدعائية".

أبدت روسيا اهتمامها بهذا العرض في البداية، لكن رفضته فرنسا مباشرةً وأصرّت على مطالبتها بسوريا. ورفض وزير الخارجية البريطاني ذلك العرض بدوره.

بعبارة أخرى، كانت الحكومتان البريطانية والفرنسية تنوحان على مذبحة الأرمن علناً، لكنهما سمحتا باستمرار تلك الإبادة بكل سرور سراً. ويبدو أنهما ذهبتا أبعد من هذه المفارقة البشعة أيضاً. يذكر فرومكين أن عرض جمال باشا تزامن مع إجلاء الحلفاء من شبه جزيرة "جاليبولي" في تركيا والتخلي عن حملتهم هناك. لكن كان تعطّش البريطانيين والفرنسيين إلى المكاسب الإمبريالية بعد الحرب كبيراً لدرجة أن يتجاهلوا فرصة إخراج السلطنة العثمانية من الصراع، ما أدى إلى إطالة مدة الحرب وإيصال عدد مجهول من جنودهم إلى الموت.

كان الدور الأميركي في هذه الحملة الدنيئة أقل وطأة لكنه يبقى مشيناً. استنكرت الصحافة الأميركية والسياسيون الأميركيون الإبادة الأرمنية خلال الحرب التي انضمّت إليها الولايات المتحدة في العام 1917. قال الرئيس وودرو ويلسون حينها: "قلب الولايات المتحدة كله ينبض من أجل أرمينيا". كان يظن أن الأميركيين "مطّلعون على أحداث أرمينيا ومعاناتها أكثر من أي منطقة أوروبية أخرى".



احتجاج على الغزو الروسي لأوكرانيا أمام السفارة الأوكرانية في يريفان



لكن عادت الولايات المتحدة وانضمّت إلى مناورات ما بعد الحرب للاستيلاء على جزءٍ من المنطقة ونفطها. سقط الباشوات الثلاثة من السلطة، لكن رفض بديلهم كمال أتاتورك محاسبة مرتكبي الإبادة الجماعية لأي سبب. فجأةً، تغيّر الوضع بالكامل. في الوقت نفسه، تجدّدت المذابح المنظّمة ضد الأرمن.

كان آلن داليس حينها مسؤولاً شاباً في وزارة الخارجية الأميركية (عاد وأصبح رئيس وكالة الاستخبارات المركزية)، فكتب في تلك الفترة أن "وزارة الخارجية لا تريد أن تعطي انطباعاً مفاده أن الولايات المتحدة مستعدة للتدخل بكامل قوتها لحماية مصالحها التجارية، لكنها ليست مستعدة للتحرك لحماية الأقليات المسيحية". لكن هكذا كان الوضع فعلاً، كما يقول داليس: "لطالما انشغلتُ بمحاولة درء قرارات التعاطف في الكونغرس".





بعد فترة قصيرة، أصبح الوقت مناسباً للتطلع إلى المستقبل ونسيان الماضي. حتى أن البعض ذهب إلى حد التساؤل: هل كان ما أصاب الأرمن سيئاً أصلاً؟ كتب أميرال أميركي متقاعد مقالة بارزة يزعم فيها أن الأرمن المفقودين لم يُساقوا إلى الصحراء، بل إلى أكثر الأجزاء سعادة وخصوبة من سوريا... وقد كلّفت هذه العملية الكثير من الأموال والجهود". لكن لم يذكر هذا الأميرال أن الحكومة التركية قدّمت له تسوية نفطية مربحة في العراق.





يبدو الدرس الذي يمكن استخلاصه من هذه التجربة لتطبيقه في أوكرانيا اليوم قاتماً، لكن يُفترض أن يفهمه الجميع صراحةً. يجب أن نتجاهل مختلف التصريحات المؤثرة التي يدلي بها السياسيون في هذه الحالة، كما في جميع الحالات الأخرى. قد تتخذ الولايات المتحدة خطوات تفيد الأوكرانيين، لكن ستكون المنافع حينها مجرّد صدفة. من الأفضل ألا يتكل أي أوكراني على هذا النوع من المبادرات، ويُفترض ألا يصدّق أي أميركي أن الحكومة الأميركية تتحرك لمصلحة الآخرين. تطبّق الدول القوية دوماً استراتيجيات بعيدة المدى وتكون مُصمّمة على تنفيذها بأي ثمن، لكن لن تصبح المعاناة البشرية جزءاً من المعادلة يوماً.


MISS 3