من المتعارف عليه دولياً أنه عند نهاية كل حرب داخلية تسود مرحلة من السلم الأهلي، لا سيما في البلدان والمجتمعات المتحضرة التي تسعى للقيام بخطوات سريعة تخرجها من تجربتها كي لا تتكرر، ولمنع الوقوع بالأزمات عينها. إلا أن الواقع اللبناني ليس كذلك وحتى اليوم نأسف أن بلدنا لم يخرج من دوامة الحرب، أو مفاعيلها، رغم مرور أكثر من 40 سنة على بدايتها. لعل أبرز الأدلة الخطيرة على استمرار التداعيات هو اهتمام جيل الشباب اليوم بمرحلة الحرب اللبنانية التي وقعت في سبعينات القرن الماضي، ونكران شبه كلي لمرحلة ما بعد الطائف وكأن هناك من قرر محو الذاكرة اللبنانية بشكل ممنهج لـ15 سنة من حرب من نوع آخر.
علمياً، مرحلة الاستقرار ما بعد أي حرب، تتأثر بعوامل وخطوات ضرورية عدة تضاف الى وقف الاعمال الحربية، وتتوزع على 4 خطوات اساسية: نوع الاتفاق الذي انهى الحرب والتعديلات الجذرية على النظام لضمان فترة استقرار اطول، تحديد طبيعة النزاع بين الجهات المتحاربة، من هي الجهة المحايدة الضامنة لاتفاق انهاء الحرب، وطبيعة الآليات المعتمدة لإطلاق عجلة العدالة الانتقالية.
في الحالة اللبنانية، تدوّلت الازمة اللبنانية مع انفراد السادات بمفاوضات سلام مع إسرائيل، ومحاولات سوريا تثبيت دورها الإقليمي على حساب لبنان بدءاً من العام 1978، مروراً بحرب زحلة في العام 1981حتى اغتيال الرئيس بشير الجميل. اما عهد الرئيس امين الجميل فيمكن وصفه بالضعيف حيث فشل في تحوله رقماً صعباً يفرض الارادة اللبنانية على الفرقاء المتصارعين، تارة لغايات محلية بحتة وطوراً لتنفيذ ارادة خارجية كما حصل في 6 شباط 1984. كل هذه الانهيارات أفقدت كل القوى الدولية الاهتمام بالقضية اللبنانية نتيجة شعورها بعدم الجدية هذه، فبحثت عن طرف آخر لتسليمه اللعبة اللبنانية، والطرف الجاهز دائما لوضع اليد على لبنان كان النظام السوري.
طرح الأخير نفسه الضامن لفترة السلم الاهلي في لبنان بعد الحرب، وحاول تثبيت هذا الواقع الجديد عبر توقيع الاتفاق الثلاثي الذي يكرس الوجود السوري من دون فترة زمنية للانسحاب وهيمنة شبه كاملة على الدولة اللبنانية، ما ادى الى انتفاضة قام بها آخر معقل للخط السيادي او ما عرف بالخط البشيري، لنسف الاتفاق-الهيمنة. فكان الحل الوحيد المتبقي لفرض "الحل السوري"، خاصة بعد تسليف الولايات المتحدة الاميركية غطاء عربياً لحربها على العراق، القضاء عسكرياً على منطقة "لبنان الحر" او منطقة بقاء نفوذ "الدولة"، وقد صمدت امام الهيمنة السورية لأكثر من 12 سنة، حيث زُج بالجيش اللبناني آنذاك لضرب قوات الصمود في وجه الاحتلال ما أضعف القدرة العسكرية وسهّل الحسم العسكري السوري. انتهت الاعمال الحربية بعد مفاوضات تمت بين معظم المرجعيات السياسية في مدينة الطائف وبرعاية إقليمية ودولية سوقت على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب" استنساخاً للحل بعد احداث 1958. القراءة العلمية المتأنية والمبنية على وقائع الاحداث وعلى دراسات إحصائية، تقودنا الى استنتاجات مختلفة تماماً وهي الاقرب الى الواقع.
صحيح ان الوضع الامني اصبح ممسوكاً والتجاوزات العسكرية أصبحت محصورة ببعض الجهات، الا ان الاستقرار تم على حساب حقوق الانسان والحياة الديمقراطية والمصالحة الوطنية. والمصطلح الذي يستخدم لتوصيف تلك الحالة بشكل ملطف هو "السلام السلبي Negative Peace". كما ان المصالحة الوطنية اقتصرت على رؤساء القوى المسلحة القريبة من النظام السوري وتم تقاسم مراكز الدولة مع بعض القريبين منها من مختلف الطوائف. فتحول تطبيق الإصلاحات البنيوية أداة ابتزاز تارة لاظهار "تعايش" مزيف عند الحاجة وطوراً لتعميق الهوة بين المجموعات الطائفية. كل من عارض الهيمنة السورية كان مصيره الاعتقال، النفي ام الاغتيال! شعار "لا غالب ولا مغلوب" سخّف بشكل كبير الأسباب الجوهرية، المباشرة وغير المباشرة للحرب، لا سيما بعدما صورت نتائج الحرب على انها حرب استنزاف بين اللبنانيين. كل نتائج الدراسات الإحصائية التي اعدت خلال العام 1994 جاءت مناقضة لهذا المصطلح وأظهرت ان الرابح الأكبر من مرحلة ما بعد الحرب هما الجماعتان السنية والشيعية على حساب باقي المجموعات.
الغالبون هم من وضعوا يدهم بيد السوريين وتعاونوا معهم على شركائهم في الوطن واخذوا حصة "الأسد" في السلطة، ومنهم ما زال حتى اليوم. والمغلوبون هم من عاشوا الاضطهاد والقمع والنفي والتهجير القسري لمدة 15 عاما ما كسر محاولة التسويق لصورة السلم الاهلي النمطية، فالمصالحة حتى اليوم بين مختلف المكونات التي شاركت في الحرب لم تحصل، باستثناء مصالحة الجبل التاريخية، وما زلنا نعيش في ذاك الزمان او اقله تداعياته. اضف الى كل ما سبق، الخطيئة المتعمدة في التهميش الهيكلي للدولة من خلال عدم إضفاء الطابع المؤسسي على الانقسامات الطائفية في السياسة ما زاد من شعور عدم المساواة والاختلافات. ناهيك عن الترتبات التهديمية لكل محاولات تطويع السلطة القضائية والضغط عليها كما الاجهزة الامنية التي هُمشت او تحول دورها منفّذاً لاجندات النظام الامني السوري-اللبناني.
كل السلطات المتتالية من 1990 وحتى اليوم لم تتطرق بشكل فعال إلى الاحتياجات الإنسانية الأساسية للأمان والاستقرار والمساواة، لا بل مارست كل اشكال الهدر والفساد وضربت كل القطاعات الاقتصادية، باستثناء القطاع المصرفي الذي استغل في عمليات تبييض اموال النظام السوري، واليوم الايراني، ورسخت واقعاً كان السبب الأساس في تأجيج النزاع اللبناني: السلاح غير الشرعي، من سلاح فلسطيني الى آخر ايراني وكله في خانة المحور الممانع. "مرحلة السلم الأهلي" هي سردية استندت الى نقطتين أساسيتين، الاولى ان اتفاق الطائف الذي اعتُبر "وثيقة وفاق وطني" ضمَن توزيعاً عادلا للسلطة بين المكونات المجتمعية اللبنانية، والثانية حصر القوة السياسية والعسكرية بيد السوريين كضامن للاستقرار والامن الضروريين لمرحلة النهوض والاعمار. اي من بنوده لم يطبق، رغم ان الوضع الامني صار ممسوكا وكان مدخله تسليم سلاح "القوات اللبنانية" كمساهمة جدية وعن قناعة بضرورة وقف الاعمال الحربية والعبور الى الدولة. كان واضحاً ان الراعي الرسمي لوثيقة الوفاق الوطني لم يوفر أي حل للصراع على المدى الطويل، لا بل فشلت مرحلة السلم الاهلي في معالجة الأسباب الجذرية للصراع ولم تقدم على تنفيذ اي من الحلول التي طُرحت كاللامركزية، وانشاء مجلس الشيوخ، والغاء الطائفية السياسية.
طبق اتفاق الطائف استنسابياً فقط لتحقيق مصلحة النظام السوري، فمرحلة السلام السوري المزيف كانت استكمالاً لمحاولة القضاء على لبنان وتغيير هويته سياسياً واقتصادياً.