د. ايلي طوني الياس ‏

السلم السوري؟ ‏

26 نيسان 2022

20 : 35

من المتعارف عليه دولياً أنه عند نهاية كل حرب داخلية تسود مرحلة من السلم الأهلي، لا سيما في البلدان ‏والمجتمعات المتحضرة التي تسعى للقيام بخطوات سريعة تخرجها من تجربتها كي لا تتكرر، ولمنع الوقوع ‏بالأزمات عينها. إلا أن الواقع اللبناني ليس كذلك وحتى اليوم نأسف أن بلدنا لم يخرج من دوامة الحرب، أو ‏مفاعيلها، رغم مرور أكثر من 40 سنة على بدايتها‎. ‎لعل أبرز الأدلة الخطيرة على استمرار التداعيات هو ‏اهتمام جيل الشباب اليوم بمرحلة الحرب اللبنانية التي وقعت في سبعينات القرن الماضي، ونكران شبه كلي ‏لمرحلة ما بعد الطائف وكأن هناك من قرر محو الذاكرة اللبنانية بشكل ممنهج لـ15 سنة من حرب من نوع ‏آخر‎. ‎


علمياً، مرحلة الاستقرار ما بعد أي حرب، تتأثر بعوامل وخطوات ضرورية عدة تضاف الى وقف الاعمال ‏الحربية، وتتوزع على 4 خطوات اساسية: نوع الاتفاق الذي انهى الحرب والتعديلات الجذرية على النظام ‏لضمان فترة استقرار اطول، تحديد طبيعة النزاع بين الجهات المتحاربة، من هي الجهة المحايدة الضامنة لاتفاق ‏انهاء الحرب، وطبيعة الآليات المعتمدة لإطلاق عجلة العدالة الانتقالية.‏


في الحالة اللبنانية، تدوّلت الازمة اللبنانية مع انفراد السادات بمفاوضات سلام مع إسرائيل، ومحاولات سوريا ‏تثبيت دورها الإقليمي على حساب لبنان بدءاً من العام 1978، مروراً بحرب زحلة في العام 1981حتى ‏اغتيال الرئيس بشير الجميل. اما عهد الرئيس امين الجميل فيمكن وصفه بالضعيف حيث فشل في تحوله رقماً ‏صعباً يفرض الارادة اللبنانية على الفرقاء المتصارعين، تارة لغايات محلية بحتة وطوراً لتنفيذ ارادة خارجية ‏كما حصل في 6 شباط 1984. كل هذه الانهيارات أفقدت كل القوى الدولية الاهتمام بالقضية اللبنانية نتيجة ‏شعورها بعدم الجدية هذه، فبحثت عن طرف آخر لتسليمه اللعبة اللبنانية، والطرف الجاهز دائما لوضع اليد على ‏لبنان كان النظام السوري.‏


طرح الأخير نفسه الضامن لفترة السلم الاهلي في لبنان بعد الحرب، وحاول تثبيت هذا الواقع الجديد عبر توقيع ‏الاتفاق الثلاثي الذي يكرس الوجود السوري من دون فترة زمنية للانسحاب وهيمنة شبه كاملة على الدولة ‏اللبنانية، ما ادى الى انتفاضة قام بها آخر معقل للخط السيادي او ما عرف بالخط البشيري، لنسف الاتفاق-‏الهيمنة‎. ‎فكان الحل الوحيد المتبقي لفرض "الحل السوري"، خاصة بعد تسليف الولايات المتحدة الاميركية ‏غطاء عربياً لحربها على العراق، القضاء عسكرياً على منطقة "لبنان الحر" او منطقة بقاء نفوذ "الدولة‎"‎، وقد ‏صمدت امام الهيمنة السورية لأكثر من 12 سنة، حيث زُج بالجيش اللبناني آنذاك لضرب قوات الصمود في ‏وجه الاحتلال ما أضعف القدرة العسكرية وسهّل الحسم العسكري السوري‎. ‎انتهت الاعمال الحربية بعد ‏مفاوضات تمت بين معظم المرجعيات السياسية في مدينة الطائف وبرعاية إقليمية ودولية سوقت على قاعدة "لا ‏غالب ولا مغلوب" استنساخاً للحل بعد احداث 1958‏‎. ‎القراءة العلمية المتأنية والمبنية على وقائع الاحداث ‏وعلى دراسات إحصائية، تقودنا الى استنتاجات مختلفة تماماً وهي الاقرب الى الواقع. ‏


صحيح ان الوضع الامني اصبح ممسوكاً والتجاوزات العسكرية أصبحت محصورة ببعض الجهات، الا ان ‏الاستقرار تم على حساب حقوق الانسان والحياة الديمقراطية والمصالحة الوطنية. والمصطلح الذي يستخدم ‏لتوصيف تلك الحالة بشكل ملطف هو "السلام السلبي‎ Negative Peace". ‎كما ان المصالحة الوطنية ‏اقتصرت على رؤساء القوى المسلحة القريبة من النظام السوري وتم تقاسم مراكز الدولة مع بعض القريبين ‏منها من مختلف الطوائف. فتحول تطبيق الإصلاحات البنيوية أداة ابتزاز تارة لاظهار "تعايش" مزيف عند ‏الحاجة وطوراً لتعميق الهوة بين المجموعات الطائفية‎. ‎كل من عارض الهيمنة السورية كان مصيره الاعتقال، ‏النفي ام الاغتيال‎! ‎شعار "لا غالب ولا مغلوب" سخّف بشكل كبير الأسباب الجوهرية، المباشرة وغير المباشرة ‏للحرب، لا سيما بعدما صورت نتائج الحرب على انها حرب استنزاف بين اللبنانيين. كل نتائج الدراسات ‏الإحصائية التي اعدت خلال العام 1994 جاءت مناقضة لهذا المصطلح وأظهرت ان الرابح الأكبر من مرحلة ‏ما بعد الحرب هما الجماعتان السنية والشيعية على حساب باقي المجموعات.‏


الغالبون هم من وضعوا يدهم بيد السوريين وتعاونوا معهم على شركائهم في الوطن واخذوا حصة "الأسد" في ‏السلطة، ومنهم ما زال حتى اليوم. والمغلوبون هم من عاشوا الاضطهاد والقمع والنفي والتهجير القسري لمدة ‏‏15 عاما ما كسر محاولة التسويق لصورة السلم الاهلي النمطية، فالمصالحة حتى اليوم بين مختلف المكونات ‏التي شاركت في الحرب لم تحصل، باستثناء مصالحة الجبل التاريخية، وما زلنا نعيش في ذاك الزمان او اقله ‏تداعياته‎. ‎اضف الى كل ما سبق، الخطيئة المتعمدة في التهميش الهيكلي للدولة من خلال عدم إضفاء الطابع ‏المؤسسي على الانقسامات الطائفية في السياسة ما زاد من شعور عدم المساواة والاختلافات. ناهيك عن ‏الترتبات التهديمية لكل محاولات تطويع السلطة القضائية والضغط عليها كما الاجهزة الامنية التي هُمشت او ‏تحول دورها منفّذاً لاجندات النظام الامني السوري-اللبناني.‏


كل السلطات المتتالية من 1990 وحتى اليوم لم تتطرق بشكل فعال إلى الاحتياجات الإنسانية الأساسية للأمان ‏والاستقرار والمساواة، لا بل مارست كل اشكال الهدر والفساد وضربت كل القطاعات الاقتصادية، باستثناء ‏القطاع المصرفي الذي استغل في عمليات تبييض اموال النظام السوري، واليوم الايراني، ورسخت واقعاً كان ‏السبب الأساس في تأجيج النزاع اللبناني: السلاح غير الشرعي، من سلاح فلسطيني الى آخر ايراني وكله في ‏خانة المحور الممانع‎. "‎مرحلة السلم الأهلي" هي سردية استندت الى نقطتين أساسيتين، الاولى ان اتفاق الطائف ‏الذي اعتُبر "وثيقة وفاق وطني" ضمَن توزيعاً عادلا للسلطة بين المكونات المجتمعية اللبنانية، والثانية حصر ‏القوة السياسية والعسكرية بيد السوريين كضامن للاستقرار والامن الضروريين لمرحلة النهوض والاعمار. اي ‏من بنوده لم يطبق، رغم ان الوضع الامني صار ممسوكا وكان مدخله تسليم سلاح "القوات اللبنانية" كمساهمة ‏جدية وعن قناعة بضرورة وقف الاعمال الحربية والعبور الى الدولة‎. ‎كان واضحاً ان الراعي الرسمي لوثيقة ‏الوفاق الوطني لم يوفر أي حل للصراع على المدى الطويل، لا بل فشلت مرحلة السلم الاهلي في معالجة ‏الأسباب الجذرية للصراع ولم تقدم على تنفيذ اي من الحلول التي طُرحت كاللامركزية، وانشاء مجلس ‏الشيوخ، والغاء الطائفية السياسية. ‏


طبق اتفاق الطائف استنسابياً فقط لتحقيق مصلحة النظام السوري، فمرحلة السلام السوري المزيف كانت ‏استكمالاً لمحاولة القضاء على لبنان وتغيير هويته سياسياً واقتصادياً‎. ‎

MISS 3