عيسى مخلوف

بين الجوائز الأدبيّة والأدب

28 أيار 2022

02 : 00

لوحة للفنّان الفرنسي Fragonard (١٧٧٦).

نفرح لأصدقائنـــــا الذين يحصلون على جوائز يستحقّونها، وبعضهم يمنح الجائزة قيمة ومصداقيّة، لكنّ فرحنا يخفي حسرة قلّما يُعبَّر عنها، ويطرح تساؤلات غالباً ما نتهرّب من طرحها.

الأدب، روايةً وشعراً، هو لكتابة ما يريده الكاتب لا ما تمليه عليه الشروط غير المُعلَنة للجوائز. الكتابة الحرّة هي التي تكسر الوصاية والمحرّمات، تتناول المواضيع التي تريدها، بالأسلوب الذي تريد. تخترق السائد والمألوف وتتجرّأ على خوض مغامرة الحداثة والتجديد التي لا تتوقّف عند حدّ. الأدب الذي لا يستطيع أن يحقّق ذلك لن يرفع من شأنه أيّ تكريم.

قد تساهم الجوائز في الترويج لكتاب ما، وزيادة المبيعات، وهذا شيء مهمّ، لكنّها غير قادرة على إنتاج كتاب واحد يشكّل إضافة. ثمّة كتّاب يستحقّون جائزة نوبل للآداب ولم يحصلوا عليها، ومنهم، في القرن العشرين، الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخِس. وهناك من حصل عليها ورفضها كما فعل الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر.

موضوع الجوائز الأدبيّة محطّ اهتمام النقد في الغرب، وقد صدرت كتب عدّة تتناول هذا الموضوع من جوانب مختلفة، ومنها ما يندرج في سياق سوسيولوجيا الأدب. بعض هذه الكتب يرصد المعايير التي تتحكّم بالجوائز، وبعضها الآخر يتوقّف عند "ثمن الوصول إلى الجائزة". في كتابها المخصّص لتاريخ الجوائز الأدبيّة، تلقي الباحثة الفرنسيّة سيلفي دوكا الضوءَ على التكوينات الجديدة للحالة الأدبية المعاصرة وأثر الجوائز فيها، خصوصاً في فرنسا التي تُعَدّ بين أكثر دول العالم مَنحاً للجوائز. انطلاقاً من ذلك، تقرأ الأنماط الجديدة التي يتشكّل فيها العالم الأدبي وينجم عنها تَراجُع الوظيفة الاجتماعيّة والسلطة المركزيّة للكاتب، وتَراجُع الكتاب كشيء "مقدّس"، وضُمور القراءة النوعيّة والتغيُّرات التي طرأت على الممارسات الثقافيّة ككلّ. وذلك نتيجة تحويل الكتاب إلى سلعة يصير المعيار الأساسي فيها العرض والطلب. هذا "المنطق" يتدخّل في الذائقة الأدبية أيضاً، وفي تكوين نمط من الأدب هدفه الوصول إلى أكبر نسبة من القرّاء، فتصبح الجوائز، والحال هذه، جزءاً من هذه المنظومة. هكذا لا تعود أهمّية الكتاب تنحصر في قيمته الأدبية والجمالية فحسب، بل أيضاً، وربّما في المقام الأول، في قيمته التجاريّة والتسويقيّة. في هذا السياق، ينتقل الكتاب من هاجسٍ الهدفُ منه البحث عن موقع في الإرث الأدبيّ عبر الزمن، إلى نظام معياره الأساسيّ التغطية الإعلاميّة والنجوميّة والشهرة والمال، هنا والآن. وهذا ما جعل دُور نشر غربيّة تتحوّل إلى امبراطوريات فعليّة تتعاطى مع الكتّاب المكرّسين كخيول في حلبة سباق.

كان هدف جائزة "غونكور" - الجائزة الأدبيّة الأهمّ في فرنسا - يوم تأسّست، نهاية القرن التاسع عشر، ومُنحت للمرّة الأولى في العام 1903، حمايةَ الكاتب من الآثار السلبيّة لاقتصاد السوق، أو التخفيف منها على الأقلّ، لكنّ القوّة الرمزية لهذه الجائزة اليوم أصبحت، في قدرتها على التأثير، جزءاً من هذه السوق نفسها، ما يسجّل انتصاراً للمردوديّة المادية مقابل القيمة الأدبيّة والفنّيّة.

في العام 1919، حصل مارسيل بروست على جائزة "غونكور"، عن كتابه "في ظلّ اليانعات المُزهِرات"، وهو الجزء الثاني من رائعته الأدبيّة "البحث عن الزمن المفقود"، لكنّها لم تكن محاولته الأولى في هذا السباق، إذ كان قد تقدّم لنيل الجائزة في العام 1913 من خلال الجزء الأول من تحفته، لكنه لم يحصل على أيّ صوت من أصوات اللجنة التحكيميّة المؤلّفة من عشرة أعضاء. ولم تلتفت هذه اللجنة أيضاً إلى نتاج آخر طبع الأدب الفرنسي في القرن العشرين وهو "رحلة في أقاصي الليل" للكاتب لوي فردينان سيلين، ومُنحت الجائزة حينذاك لكاتب آخر ضاع اسمه وأثره اليوم.

أهلاً بالجائزة إذا كانت غير مشروطة، وإذا كانت تُوَسِّع حولها فضاء النقد الموضوعي وتفسح المجال أمام نقّاد حقيقيين فعليين، إذ في غياب هؤلاء يتحوّل الأدب إلى حديث إلهاء وتسلية. الأدب الحيّ العظيم يستمدّ قوّته من نفسه ومن قدرته على اجتراح الجمال. ما معنى الكتابة الإبداعيّة إذا لم تكن التوق إلى عالم بديل، واختراق الممنوعات، وارتياد المجهول، والتطلّع إلى المستحيل؟ الإبداع مُرادف للحرّيّة، والأدب الذي لا ينطلق من الحرّيّة مُنطفئة شُموسه، مُكبَّل بالأغلال وعاجز عن التحليق، والتحليق يحتاج إلى السماء بأكملها.


MISS 3