خالد العزي

الشيوعيون الروس والحرب الأوكرانيّة

23 تموز 2022

02 : 01

لم يعُد الفكر الماركسي هو المخلّص في المجتمع الروسي (أ ف ب)

في بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، طالب الأمين العام للحزب الشيوعي الروسي غينادي زوغانوف بتوجيه ضربة قاسية إلى كييف لتأديب المتمرّدين من مجموعات "بانديرا"، ليتحوّل إلى متطرّف قومي روسي كما حال خطاب المفكر إيفان إيليين الذي ترك بصماته على الرئيس فلاديمير بوتين وكلّ خلية أزمة سان بطرسبورغ، التي تُدير الدولة ورأس الكنيسة الروسية البطريرك كيريل والرئيس السابق ديميتري ميدفيديف ليحمي مستقبله بالتطرّف، وحتّى وزير الخارجية سيرغي لافروف الذي بات يُسلّح تصريحاته بعبارات وأفكار الفيلسوف المتطرّف إيليين.

وبات إيليين وألكسندر دوغين مصدرين للنخبة الحاكمة في الكرملين، وقد سيطرت هذه الأفكار القومية على القيادة الروسية، بمن فيهم زوغانوف متناسياً ماركسيّته وأمميّته، وتُراثه الماركسي اللينيني، ليُصبح واحداً من أحزاب السلطة الروسية ذات الأفكار القومية المتطرّفة والخطاب الخشبي.

يُشدّد زوغانوف على أن نقاط ضعف نظام "بانديرا" التي تُدار من الخارج، بما فيها وكالة الإستخبارات المركزية، حيث تحمل توجهاتها القومية المتطرّفة، أنه ليس لها شعبية في الداخل كونها كاثوليكية، ومن المفيد جدّاً للسلطة توجيه ضربة قاسية لها، وعدم السماح للخارج بمساعدتها أو دعم توجّهها القومي، وجعل النازيين الجدد يشعرون بالألم من شدّة العقاب الذي لا يُمكن أن يفلتوا منه، لمنعهم من تنفيذ جرائم دموية جديدة أو الإستمرار بهذا التطرّف المخيف.

إن زوغانوف فتح الباب على مصراعيه أمام الدولة الأوكرانية لتردّ التحية بالمثل، والتي لم تكن موفقة بالمواقف التي اتخذتها أخيراً لجهة حلّ الحزب الشيوعي الأوكراني والأحزاب المؤيّدة لروسيا، وإن أُجبرت على هذا التصرّف ضمن تصفية الحسابات. وهذا الطرح للحزب الشيوعي الروسي يتوافق مع طرح النظام الروسي في موسكو الذي يُريد توجيه ضربة مؤلمة وتأديبية لجماعة "بانديرا"، "العملاء الغربيين"، إبّان الحرب الروسية - الألمانية الذين عارضوا الحكم الشيوعي - الستاليني سابقاً، بحيث يقتبس البوتينيون الجدد هذا العداء للشعب الأوكراني كلّه.

من الجيّد أن الحرب أزالت كلّ الأغطية والأقنعة والتي لطالما أخفاها الشيوعيون والقوميون الروس عن الجميع. الحقيقة تكمن في أنهم يُشرِّعون أكل لحم البشر في هذه الحرب العبثية بين الشعبَيْن والقوميّتَيْن والمذهبَيْن من خلال تشجيع الآلة الحربية بالإستمرار بهذا الدمار المخيف، والذي يستغلّه المتطرّفون الروس لمعاقبة أوكرانيا، كقومية ولغة وتاريخ وثقافة وكيان وحضارة...

الطريقة الروسية هي خليط أفكار معقدة من الفلاسفة القوميين كإيفان إيليين ونيكولاي برديائيف وليف غوميليوف ولاحقاً ألكسندر دوغين حول الطبيعة الرسالية للحضارة الروسية ومنطلقاتها الثلاثة: الطابع الإمبراطوري القيصري، دور الكنيسة الأرثوذكسية، والتشبّث بالقيم المحافظة للفرد والأسرة والطبيعة، في إطار وجود فضاء متجانس يضمّ روسيا الأوراسية وآسيا الوسطى التي تضمن لروسيا مصالحها القومية.

لقد تظاهر الشيوعيون للتعبير عن مطالبهم بعودة أفكارهم الماركسية، واشتراكيتهم بطريقة حضارية غير مؤذية، كانوا يحبون التلويح بالأعلام وشمّ مومياء لينين من أجل الإستمرار، لكن الآن بات كلّ شيء واضحاً معهم. وبالفعل فالمواقف تؤخذ بالأوقات الحرجة وتُشكل موقفاً ثابتاً. لكن موقف الحزب نقطة مهمّة في إعادة تشكيل المأساة الحقيقية للواقع الروسي، والذي يدفع ثمنه الشعب المغلوب على أمره. لم يعُد الفكر الماركسي الذي يجتمع عليه الروس، بمن فيهم الشيوعيون، هو المخلّص، بل أصبح الفكر القومي الديني المتطرّف الذي يؤثر في خطاب وتوجهات الكرملين عبر فلسفة ألكسندر دوغين، هو الطريق. وفي المستقبل، لن يكون هناك مكان للشيوعيين الروس، حتّى الزخرفة الرسمية والشعبية قد خسروها، كونهم قد تحوّلوا من حزب أممي جامع إلى مجموعة متطرّفة شوفينية ترتع في أحضان النظام الروسي والتي لا تختلف عن الأحزاب الثلاثة المتواجدة في البرلمان، وتُشكّل غلافاً ديموقراطيّاً لحزب بوتين ذات الغالبية البرلمانية والوزارية السلطوية التي تُقدّس رجال المافيات (رمضان قاديروف)، والديكتاتوريات (بشار الأسد) والأوليغارشية (الطغمة الكمبرادورية) الروسية.

المشروع القائم في روسيا هو من توجهات الفيلسوف دوغين القائمة على مفهوم "نوما خيا" أي حرب العقول، فكلّ الأفكار واللقاءات والتحالفات هي أفكار موجودة في عالم العقل والذي يجب أن يُسيطر عليها، للوصول إلى الخلاص من كلّ الأفكار الغربية والليبرالية والماركسية لحماية الأمّة الروسية من خلال المخلّص القومي، وبالتالي التخلّص من الحقبة الماركسية الثقيلة.

لذلك، بات التباعد فعليّاً بين الأفكار الماركسية اللينينية وتعاملها مع القضايا المصيرية، وبين ورثتها الذين باتوا بيدقاً بيد النظام الروسي بالمزايدة عليها بالنبرة المتطرّفة، في الوقت الذي كان يُمكن للحزب الشيوعي الروسي والأحزاب الديموقراطية إلى جانب الحزب الشيوعي الأوكراني، رفع الصوت عالياً في وجه الحرب والوقوف إلى جانب الشعبَيْن الروسي والأوكراني، وإعلان النفير العام للوقوف في وجه الحرب المدمّرة القاتلة التي باتت تُشكّل أخطر حرب تواجهها الأمة السلافية، والتي تعكس نفسها على الغرب والشرق وتُهدّد بأزمات اقتصادية واجتماعية.


MISS 3