خالد العزي

المثقّف ودوره في الحراك اللبناني...

21 كانون الثاني 2020

02 : 00

الفكر الحرّ الذي يمثّله المثقّف هو الوجه الغائب للحقيقة الحاضرة (رمزي الحاج)

لم يكن الحراك اللبناني زوبعة في فنجان، كما كان يتصوره البعض، حيث بات التحرك في لبنان حركة تحررية بكل معنى الكلمة من خلال الرفض المطلق للصورة السابقة التي تعايش معها الكثيرون في الحياة اللبنانية.

فالنمطية التي فرضت نفسها على جيل كامل من الشعب اللبناني ارتبطت مباشرة بالنمط التفكيري الكلاسكي، لهذه الفئات التي سيطرت على معظم المفاهيم المرتبطة بالأيديولوجيات، والتي حملها الكثيرون ولا يزال يعيش في ظلها البعض، او بالأحرى ما يسمى مرض الموروثات الثقافية الفاشلة او المرتبطة بمفاهيم متحجرة، لم تعد تنفع حياتنا اللبنانية "الأيديولوجيات" المريضة.

ان الصراع القديم الذي عاشته اجيال الستينات والسبعينات والثمانينات قد سيطرت عليها مفاهيم ضيقة مثل "اليسار واليمين" على ثقافتنا، مما ساهم بتقسيم شرائح البلد الى قسمين، اختلف بعضها بالتوجهات والانماط الثقافية والاقتصادية، حيث بات الصراع واضحاً بين الايديولوجية التي لا يزال يعيش البعض على امجادها، محنّاً اليها متأثراً بموروثها الفلسفي، فهذه المفاهيم لم يعد يعرف فيها من "اليميني او اليساري"، اما من ناحية اخرى فتختلف هذه المفاهيم مع جيل التكنولوجيا الذي نما في ظل مفاهيم مختلفة، حيث بات الهاتف سلاحه الرئيسي والكلمة رسالته، يتكلم، يناقش، يكتب بطرق مختلفة عن الاجيال القديمة التي لا تزال تعيش في كتاب التاريخ، اذا هذا الصراع الفعلي المتجسد في الحراك اللبناني.

من هنا يحاول البعض اعطاء دور للمثقفين الذين تخلوا عن دورهم طوعاً امام هذا النظام، ولا بد من العودة الى الموقف الشهير للفيلسوف الفرنسي "إميل زولا" الذي اطلقه العام 1889 في مقالة شهيرة وقتها، حيث كسر فيه حاجز الخوف، لقد كتب متوجّها الى المثقفين الفرنسين بقوله "اني اتهم...".

وانتقادا لدور المثقف اللبناني وسكوته عما يحدث في لبنان، في التركيز على الوضع الرديء في الدول، من خلال سيطرة الفساد المالي، والعائلات الحاكمة، والمصارف في دولة أصبح شعبها يتحرك كدمى من قبل هذه السياسة الفاسدة.

لذلك ما من مثقف ملتزم سياسياً يمعن في إجلاء الوجه الأول لتوظيف التنوير، ويسكت عن الوجه الثاني في إرساء دعائم الحرية الفكرية إلا وهو ظالم للأفكار الثقافية أولاً، وظالم لنفسه ثانياً، وظالم للنظام السياسي الذي هو منخرط فيه باسم عقلانية الدولة الحديثة، فلا يجرؤ على مقاومة التحجر الفكري إلا عقل قادر على مجادلة المؤسسة السياسية بما يكفل له الرؤية النقدية البناءة.

اذا الصراع بين الاحزاب اللبنانية بشكل عام، واليسارية بشكل خاص هو في محاولتها قيادة الحراك، وكيفية السيطرة على توجهاته من خلال تسييره بطرق ايديولوجية معينة تحن فيه للماضي، وتطلق شعاراتها الثورية الانتقامية من النظام ورأس المال، اذا المشكلة بين الاجيال الشابة التي تطلق على الحراك ثورة وهي ثورة تغييرية بمفهومها الاجنبي (Evolution)، وليس ثورة كما يحاول ان يفسرها اليسار لثورثه ( Revolution)، فاليسار بكل تنظيماته وكياناته المختلفة لا يشكل من هذا الحراك 5 بالمئة من مجموع المجاميع في مختلف الساحات، فمشكلته الاساسية لا يزال ينظر بعين ادنى لهؤلاء الشباب الذين تخطوا توجهاتهم الايديولوجية بوسائلهم التكنولوجية الحديثة، ورفضهم للواقع.

هنا تكمن المشكلة بان الدور اليساري في الحراك هو دور تخريبي غير مباشر لبوصلة الثورة، فالثورة هي انتفاضة، انتفاضة شعب يعاني من انهيار نظام اقتصادي واجتماعي وسياسي وقانوني، يحاول الشعب الوقوف بوجه هذه الطبقة التي تأخذه نحو الانهيار، فالانهيار الاقتصادي حتما سيؤدي الى وصايا دولية وهذا امر خطير، او الى سيطرة ديكتاتورية مباشرة وهذا مرفوض.

الانتفاضة لا تفاوض ولا تعطي مهلاً ولا تشارك وانما تقبل بالعروض او لا تقبل بعروض الطبقة السياسية المطلوب مراقبتها وليس مشاركتها كما تحاول جر بعض المجموعات لذلك، كونها تنظر الى المنتفضين بانهم حراك ويجب تمثيله وبالتالي خلق النزاع في داخله كما فعلت فرنسا "ماكرون" مع حراك السترات الصفراء، او محاولة بعض القوى الصغيرة التظاهرات نحو المواجهات مع القوى الامنية والجيش باعتبار الثورة تفرض ذلك.

فمهمة المثقفين والطبقات الوسطى تكمن برعاية الشباب والسير وراءهم وتصويب بوصلتهم وحماية انتفاضتهم المطالبة بالتغيير، واظهار مطالب الحراك الواضحة بالتحالف مع القوى الاخرى والابتعاد عن الانانية والبدء، بالتفكير السليم ببرنامج واضح للانتفاضة وضم فئات وتحالفات مختلفة من "نقابيين ومهنيين واقتصاديين واعلاميين وفنانين وثوريين"، للوصول الى الاستقرار القادم في لبنان والخروج من حالة الانهيار المعنوي والمادي والسياسي والاقتصادي الذي فعلته الطبقة الفاسدة.

فالمثقف هو الكائن الحي الذي يبحث دوما في الخروج على المتن السائد لأنه يريد أن يحمي الفكر، يحمله ويناضل من اجله، الفكر الحر هو وحده الكفيل بحمل الجماهير على التسليم بمقولة الاستقرار لأنه هو الحر القائم بحد ذاته ويستطيع أن يقول للناس الحقيقة في اللحظة الحرجة والتاريخية ويواكب هموم الناس ويقف معهم، من هنا صاغ لينين دور الحزبي المثقف بان يقف حيث تقف الجماهير الشعبية وان يلتزم مواقفها ويحاول إرشادها من حيث هي تكون، لذلك أطلق على الحزب الشيوعي حزب الجماهير الفقيرة، المثقف الحقيقي في انتفاضة الشعب اللبناني هو من يحمل رسالة كبرى في دفاعه عن الشعب والطبقة العاملة، هو من يتقدم صفوفهم في أيام السلم وأيام الحرب، لأنه صاحب فكر حقيقي يناضل من اجله، لان المثقف عاشق الحرية الفكرية. فان الفكر الحر الذي يمثله المثقف هو الوجه الغائب للحقيقة الحاضرة، فالسياسة تعد بالمستحيل وتنجز الممكن، والفكر يطلب المستحيل ليظفر بالممكن، فالذي هو استئثار عند السياسي يتحول إلى إيثار عند المثقف، ولا غضاضة على السياسي إن ظل الفكر حرا، ولا غضاضة على الفكر إن ظلت السياسة وفية للفكر.

MISS 3