الخسائر الاستراتيجية التي مُنيت بها روسيا في حربها ضد أوكرانيا في أواخر العام المنصرم تشير إلى أنّ آلتها العسكرية تعاني، أو قل هي ليست في أحسن أحوالها. فتلك الإخفاقات دليل على أنّ ما يعانيه الروس ليس باليسير، وأنّ الجغرافية الأوكرانية بدأت تعطي ملامح المستنقع الجدّي. فالوعي الجماعي الروسي لم يتخطَ إلى الآن المستنقع الأفغاني، وعلى ما يبدو، الأبناء والأحفاد، قد يواجهون، ما واجهه سابقاً، الآباء والأجداد في أفغانستان.
إنّ تخبّط القيادة الروسية بادٍ للعيان، بدخولها دوّامة استبدال القادة الميدانيين، وهذا الأمر وفقاً للخبراء العسكريين يسبّب الإحباط للجنود الذين يخوضون المواجهات على الأرض، فيما تبدو قياداتهم السياسية والعسكرية عاجزة عن إدارة الحرب سياسياً وعسكرياً واستخباراتياً.
لقد برزت ملامح ذلك الإخفاق عندما ظهر الجيش الروسي من الناحية «اللوجستية» شديد التواضع، كون نظام نقل وتموين الجنود على الجبهات قد أثبت فشلاً، فكان هذا الواقع البداية الأولى لتهاوي صورة الجنرالات الروس المنوطة بهم إدارة المعارك. وعلى هذه الخلفية، تمّ استبدال الجنرال دميتري بولغاكوف المسؤول عن إمدادات الجيش في هجومه على أوكرانيا، والتبرير جاهز دائماً.
ويتعلق الأمر «اللوجستي» مباشرة بحسن التنظيم والاستعداد، فالحرب ليست أسلحة وجنوداً فقط، لأنّ المقاتل بحاجة لدعم غير منقطع، خصوصاً في فترات الهجوم الممتد على جغرافية شاسعة كالجغرافية الأوكرانية، فكلّ تقدّم يزيد من حاجة الجنود إلى إمدادات في الذخيرة والمحروقات، فضلاً عن المأكل والملبس والعناية الطبية.
التماسك والتنظيم عنصران رئيسان من عناصر قياس قوة الجيوش وجاهزيّتها لخوض الحروب الكبرى. فلا خلاف حول أنّ قوة روسيا تفوق أوكرانيا بأضعاف مضاعفة، إنما سوء التنظيم وتخلّف أنظمة الاتصالات، وفقدان السيطرة، هذه الأمور كلّها أدّت دوراً حاسماً في عجز الجيش الروسي عن الحسم السريع، كما كان يتوقّع القادة الروس، فكان الضياع على مستوى المعلومات، وعلى مستويي التخطيط والتنفيذ. وعليه خسر «الدّب الروسي» هيبته وبالتالي سمعته.
وكانت روسيا بعد سلسلة من النكسات على أرض الميدان، قد عيّنت الجنرال سيرغي سوروفيكين قائداً لمجموعة القوات المشتركة في أوكرانيا، ثم عادت وعيّنت مكانه جنرالاً آخر، حيث أعلنت وزارة الدفاع الروسية تعيين رئيس أركان القوات المسلحة الجنرال فاليري غيراسيموف، موضحةً أنّ التبديل جاء بسبب «زيادة المهام» التي يتعيّن إنجازها والحاجة إلى «تعاون أوثق» بين مكونات الجيش.
مقارنة خاطئة
وأول شطط استراتيجي وقعت فيه روسيا، تمثّل بمقارنة حربها في سوريا، بحربها مع أوكرانيا. فلا المقارنة السياسية، ولا العسكرية، ولا المصالح الدولية من الحربين كلتيهما قد تصحّ. فقدرات فصائل المعارضة السورية أقل بكثير من قدرات الجيش الأوكراني على الصعد كافة، كما وتفتقد للدعم الدولي الذي حظي به الأوكرانيون.
أمّا سياسياً، فأوكرانيا دولة ذات سيادة، والتدخل العسكري الروسي فيها سيُجابه برفض دولي وشجب شديد، هذا ما عبّر عنه أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بوصفه الغزو الروسي على أنّه انتهاك لسيادة الدولة الأوكرانية، معتبراً الحرب عبثية.
فالقوى الدولية توافقت، أو قبلت بالتدخل الروسي لتقارب المصالح في محاربة «الإرهاب» وفي إبقاء نظام بشار الأسد، طالما أنّ البديل غير جاهز، علاوة على أنّ التدخل الروسي قد لجم الاندفاعة التركية في سوريا، التي لا ترضي الولايات المتحدة ولا الأوروبيين. هذه الوقائع كلّها سهّلت لروسيا التدخل في سوريا لمنع سقوط النظام، وقد أدى ذلك إلى استحكام روسي في الميدان السوري.
بينما في أوكرانيا الحال مغايرة كلياً، فهي بوابة أوروبا كما وصفت، ومحددات الجغرافية السياسية تدفع الأوروبيين ومن خلفهم الولايات المتحدة إلى الدخول في المجابهة، على نحو غير مباشر، وأحياناً مباشر، إن من خلال الخبراء أو من خلال رصد الأهداف والمعطيات الاستخباراتية.
وكانت آخر تلك الإشارات، الضربة الموجعة التي وجّهتها القوات الأوكرانية في منطقة دونيتسك، وأدت إلى مقتل عددٍ كبيرٍ من الجنود باعترافٍ روسي، بصاروخ أميركي الصنع من نوع «هيمارس». فدقّة الإصابة تؤكد أنّ ثمة رصداً دقيقاً وقدرة على توجيه الصاروخ، قد لا يملك الجيش الأوكراني الخبرة الكافية لتحقيق تلك النتيجة المؤلمة للجيش الروسي.
الولايات المتحدة وحلفاؤها، استطاعوا تحويل تورّط روسيا في الحرب الأوكرانية إلى فرصة جدية، لاستنزافها على المديَين المتوسط والبعيد، وذلك عبر دعم الأوكرانيين بالمال والسلاح المتطور، الذي يظهر نجاعة في تحقيق إصابات دقيقة وموجعة في الجيش الروسي، لا بل يعيد للجيش الأوكراني زمام المبادرة في تنفيذ هجمات مضادة يستعيد من خلالها الكثير من القرى والمدن الاستراتيجية.
أوكرانيا قد تتحوّل سريعاً إلى مستنقع يستنزف روسيا اقتصادياً وعسكرياً، بحيث يُحسن خصومها استغلاله على أكمل وجه، كما تشير الوقائع الميدانية، وهذا ما لن ينفع معه استبدال جنرال بجنرال آخر.
لو اكتفت روسيا بالتلويح بالعصا، ولم تضرب بها، لأبقت على صورتها كدولة مهابة، أمّا وقد ضربت بها، فبدت وكأنّها مجرّد دولة إقليمية، الحرب بأكلافها أكبر من أن تتحمّلها أو تتكيّف معها طويلاً.