هشام بو ناصيف

جهاد الزين والفدراليّة: من جوهرة في "السفير" إلى نكسة في "النهار"

29 أيار 2023

02 : 00

بمقال حمل عنوان «الفدراليّة في المايوه»، كتب الأستاذ جهاد الزين في «النهار» (عدد السبت 27 أيّار) ما يلي: «...على المسيحيّين اللبنانيّين أن يقبلوا في سياق الرفض المسلم اللبناني الدائم، أنّنا نحن المسلمين اللبنانيّين لا نستطيع القبول بالفدراليّة لأنّ ذلك يعني أنّنا ندعو من دون تفويض مئات الملايين من المسلمين العرب إلى تقسيم ديني أو طائفي لمصر والسعوديّة وسوريا والعراق وغيرها وهذا ما لا تفويض لنا به ولا يمكن لأقليّة صغيرة في العالم العربي أن تفرض على أكثريّة ضخمة من المسلمين في العالم العربي الفدراليّة الدينيّة». ردّاً على ما ساقه الأستاذ الزين، ربّما من المفيد التذكير بما يلي:

المنطق الفدرالي

أوّلاً، الأستاذ جهاد الزين نفسه كان دافع سابقاً عن المنطق الفدرالي بمقال نشرته جريدة «السفير» (عدد 18 تشرين الثاني، 1982)، سأل فيه: "أما آن الآوان لكي نخترق عقدة الذنب هذه عبر طرح سياسي يلغي معيار «الخطيئة» التي تتحكّم بعلاقة الطوائف ببعضها البعض؟ أما آن الأوان بعد كلّ الظروف والتجارب التي مرّ فيها البلد والتي دفعت تجربة الوحدة والانقسام إلى أبعد درجاتها أن يعاد النظر في مفهوم الوحدة اللبنانيّة حيث يستبعد مفهوم الوحدة الانصهاريّة لصالح مفهوم الوحدة التعدّديّة التي تعكس فعلاً الواقع الحقيقي للبنان ولحركة طوائفه غير القابلة للانصهار ببعضها البعض، بل التي لا يمكن لها أن تنصهر.

يجب أن نذكّر هنا بانصاف تاريخي أن ما تسمّى بـ"المارونيّة السياسيّة" كانت السبّاقة إلى اعلان ذلك عبر القرارات الشهيرة لخلوة سيّدة البير التي عقدتها الجبهة اللبنانيّة في أواخر العام 1976 والتي دعت فيها للتعدديّة الحضاريّة في لبنان... لماذا اذاً هاجس الوحدة الانصهاريّة غير الممكن تاريخيّاً وثقافيّاً فيما بالإمكان أن يتحوّل لبنان إلى كيان متماسك في اطار تعدديّته".

السؤال للأستاذ الزين: ألم يكن المسلمون اللبنانيّون أقليّة بالعالم الاسلامي يوم دعاهم عمليّاً بمقال هو جوهرة فكريّة إلى تبنيّ الفدراليّة عام 1982؟ أمّا وأنّ هذا المعطى البنيوي لم يتغيّر بطبيعة الحال بين 1982 و2023، فلماذا تغيّر موقفه من الفدراليّة بين الأمس واليوم، علماً أنّ كلّ ما جرى ويجري مذاك أثبت صحّة تحليله في «السفير» لجهة استحالة صهر الطوائف اللبنانيّة وضرورة مراعاة التعدديّة المجتمعيّة؟

ردّاً على هذا السؤال، ذهبت ألسنة خبيثة منذ صدر مقال الأستاذ الزين بـ»النهار» إلى التفسير التالي: عام 1982، كان المسيحيّون لا يزالون الطائفة الأقوى في النظام المركزي، وكانت التطوّرات تشي باحتمال بقائهم كذلك اثر هزيمة منظمّة التحرير في بيروت. تالياً، كان قبول الأستاذ الزين بالفدراليّة ممكناً. أمّا وأنّ الشيعة صاروا اليوم الأقوى بالنظام المركزي، فجأة صارت الفدراليّة من المحرّمات، بذريعة أنّها ستخرّب العالم العربي. بمعنى آخر، تغيّر الموقف من الفدراليّة يعكس تغيّر موازين القوى بين الطوائف، مع انحياز مضمر من الكاتب لأقواها حاليّاً. فهل هذا التحليل صحيح؟

مصالحات الهويات

ثانياً، يؤكّد ما ذهب إليه الأستاذ الزين بشكل غير مباشر استحالة مصالحة الهويّات المسلمة العابرة للحدود مع مقتضيات الوطنيّة اللبنانيّة. ذلك أنّ قبول المسلمين اللبنانيّين بالفدراليّة أو رفضها ينبغي أن يتمّ وفق معطى واحد، لا ثاني له، عنيت المصلحة الوطنيّة اللبنانيّة. غير أنّ الاستاذ الزين يقحم سوريا ومصر والسعوديّة وكلّ الأمّة الكريمة بالموضوع، ويناقش المسألة انطلاقاً من مصلحة هذه الدول، عوضاً عن التفكير بالمصلحة الوحيدة التي يفترض أن تهمّه كلبناني، أي مصلحة لبنان.

ما قاله الأستاذ الزين لنا ضمناً هو أنّه حتّى لو كانت الفدراليّة حلّاً للبنان، لا يستطيع المسلمون القبول بها لأنّها تتعارض مع مصلحة اخوانهم بالعالم العربي، أو لأنّها تنشئ بين ظهرانيهم نموذجاً سياسيّاً قد لا يستسيغه العرب. ومن يوم فرضت الهويّات المسلمة العابرة للبنان نحر لبنان على مذبح ما سمّي بالقضيّة الفلسطينيّة والمصلحة العربيّة العليا، إلى يوم رفض الأستاذ الزين للفدراليّة باسم مصلحة السعوديّة أو مصر، مرّت عقود، ولكنّ المعضلة الأساس عندنا لا تزال هي هي: هناك دوماً في لبنان مسلمون يحاججون باسم مصالح مقدّسة وقضايا أهمّ من قضيّة اللبنانيّين ومصلحتهم، ولو في عقر دارهم.

الحرب الأهلية

ثالثاً، استطراداً، سقط لبنان في فخّ الحرب الأهليّة عام 1975، ولم تسقط مصر. عرف لبنان نظاماً ليبرالياً حقيقيّاً خلال الجمهوريّة الأولى، ولم ينسحب ذلك على سوريا أو العراق. من قال للأستاذ الزين أنّ التحوّل الفدرالي في لبنان، لو حدث، سيفرض نفسه تلقائيّاً على الدول العربيّة المجاورة؟ في هذه الحجّة غير المقنعة سوء نيّة (Mauvaise Foi) لا تخطئها عين.

وأساساً، من قال للأستاذ الزين أنّ الفدراليّة الاتنو - جغرافيّة سيّئة لبلاد كسوريا، مثلاً؟ للتذكير، عمر الكيان السوري المعاصر قرن تقريباً. ومن 1920 إلى 1963، حكم سوريا الأعيان السنّة، وكانت المكوّنات الأخرى على الهامش. ثمّ، اعتباراً من انقلاب ضبّاط البعث عام 1963، استتبّ الأمر للنخب الحاكمة العلويّة، على حساب المكوّنات الأخرى التي قمعتها بعنف، وصولاً إلى كارثة الحرب الأهليّة المستمرّة.

بمعنى آخر: الحكم المركزي السوري غيّر هويّة المنتصر والمهزوم بالمعادلة الداخليّة ولعبة العلاقة بين الطوائف، ولكن ما بقي ثابتاً هو أنّه خلق دوماً مجتمعاً تراتبيّاً فيه من هو فوق، ومن هو تحت، بحكم الخلفيّة الطائفيّة. حتّى لو سلّمنا جدلاً على سبيل الجدال النظري – ونحن عمليّاً لا ولن نسلّم بذلك – أنّ المصلحة اللبنانيّة ينبغي أن تكون خاضعة لمقتضيات دول أجنبيّة كمصر أو سوريا أو سائر الدول التي ذكرها الأستاذ الزين بمقاله، فمن المثير فعلاً للذهول أن يرفض الفدراليّة، باسم المصلحة السوريّة، أو العراقيّة، الخ. هل يرى الأستاذ الزين أنّ النظام المركزي الذي اتّبعته هذه الدول منذ كانت قادها صوب الازدهار والاستقرار، كي يتمسّك به؟

الفدرالية العراقية

رابعاً، ينسى الأستاذ الزين عندما يكتب أنّ الفدراليّة العراقيّة قوميّة عربيّة كرديّة «بينما لم ينجح التقسيم على أساس سنّي شيعي بين العرب العراقيّين أنفسهم»، أنّ ما جرى في العراق بعد عام 2003 هو سيطرة شيعيّة كاملة على مقوّمات الدولة، مقابل ضمور الدور السنّي وتراجعه. لا يكفي تالياً أن نلاحظ أنّ الفدراليّة في العراق حدثت على أساس اتني لا طائفي كي نرفضها في لبنان؛ المهمّ أن يكون صدّ الفدراليّة الطائفيّة بالعراق خلق وضعاً مقبولاً للأقليّة العربيّة السنّية التي رفضت الفدراليّة عام 2003، لترى نفسها ضحيّة النظام المركزي مذّاك.

فليعذر الأستاذ الزين المسيحيّين إن لم يريدوا تكرار غلطة السنّة العراقيّين، علما أنّهم هم، أيّ مسيّحيّو لبنان، سبقوا السنّة العراقيّين إلى ارتكاب هذه الغلطة عام 1920. وعموماً، يخطئ كثيراً الأستاذ الزين إن كان يظنّ أنّ الفالق الذي يفصل العرب عن الأكراد أقلّ من الفالق الذي يفصل المسيحيّة والاسلام. بالحقيقة، ما بين هاتين الحضارتين ما صنع الحداد في قبرص، والسودان، واندونيسيا، ويوغوسلافيا السابقة، وعلى حدود أرمينيا/ اذربيجيان، وأيضاً على حدود الفالق بين المهاجرين المسلمين والمجتمعات المضيفة في الغرب، منذ عقود، أي عمليّاً، في كلّ مكان تجاورت فيه الحضارتان. لبنان ليس استثناء على هذه المعادلة.

الأسس الدينية والطائفية

خامساً، من جهة يرفض الأستاذ الزين الفدراليّة على أساس «ديني» أو «طائفي»، ثمّ يحدّد موقفه منها على أساس ديني/ طائفي عندما يكتب «نحن المسلمين اللبنانيّين لا نستطيع القبول بالفدراليّة». بمعنى آخر: لا يحقّ للمسيحيّين اللبنانيّين التفكير بالفدراليّة الطائفيّة، ولكن لا بأس لو حدّد المسلمون اللبنانيّون موقفهم منها على نفس الأساس. بأي منطق؟

وعموماً، هذه الكلمة للأستاذ الزين هي الايجابيّة الوحيدة بالمقال أي قوله «نحن المسلمين اللبنانيّين». أقول ذلك لأنّ السذّج من المسيحيّين يحاججون بنقاشاتهم مع الفدراليّين المسيحيّين أنّ هناك ليبراليّين مسلمين غير ممانعين يقاربون السياسة من منطلقات غير طائفيّة. نحاجج بالمقابل أنّ هناك هويّة عميقة (Profonde Identité) لا يمكن للبشر الخروج منها عند تحديد موقفهم من السياسة، ولو زعموا غير ذلك. في هذه النقطة بالتحديد، يعطينا الأستاذ الزين بمقاله هديّة ثمينة سنتعملها بالنقاشات القادمة.

ولا أدري لماذا خطر على بالي كتاب الأستاذ حازم صاغية «قوميّو المشرق العربي»، بعدما فرغت من قراءة مقالة الزين في «النهار»، ثمّ نبشت مقالته في «السفير» من أرشيفي، وأعدت قراءتها. انتبه صاغية في كتابه المذكور إلى أنّ الفكر السياسي العربي، الذي افتتح القرن العشرين بموقف مشرّف في قضيّة ألفرد درايفوس، ضحيّة معاداة الساميّة، انتقل بنهاية القرن العشرين للتهليل لروجيه غارودي، المروّج لها.

هناك ردّة إلى الوراء مماثلة بين جهاد الزين «السفير»، وجهاد الزين «النهار»، في الموضوع الفدرالي. وعموماً، يستطيع الأستاذ الزين أن يتأكّد ممّا يلي:

1) لا يستطيع مكوّن فرض تعايش قسري على مكوّن آخر لا يريده.

2) رفض الفدراليّة التي يطالب بها مكوّن غالباً ما تدفعه لتصعيد مطلبه صوب الانفصال. وإن كان الأستاذ الزين يظنّ أنّ المسيحيّين اللبنانيّين يمكنهم أن يستكينوا إلى الأبد للوضع الحالي الذي أحالهم غرباء بعقر دارهم، فليقرأ تاريخهم.



(*) استاذ العلوم السياسية في جامعة كليرمونت - ماكينا (كاليفورنيا)