جيمي الزاخم

رحلةٌ إلى هرم أسامة أنور عكاشة

15 أيلول 2023

02 : 01

الكاميرا في مكتب عكاشة

في جمهورية كتّاب السيناريو العرب، قلائل نالوا ما ناله أسامة أنور عكاشة من جماهيريّة وتنويهات نقديّة. تُدَوّن مسلسلاته في سجلّ الذاكرة الجماعيّة والوعي الاجتماعيّ. بجزأين وتسعين دقيقة، تستحضر قناة الوثائقية المصرية عشراتِ السنوات من سيرة كاتبٍ أمسك قلمَه بيدٍ، وباليد الأخرى، بنى هرمَ الواقع والتاريخ المصريّ.



على صعيد الشكل، بُني ديكور خصّيصاً لتصوير مشاهد الوثائقي داخل مدينة الإنتاج الإعلاميّ. إنّ عكاشة يعرّف عن نفسه بأنّه «عاشق من عشّاق المكان». يُشاهده ويستولد منه الحكاية. فأبى الوثائقي الا أن يكون التكريم مع مكان بخلفيّة عابرة وكرسيّ يتيم. استُحضرت أرواحُه مع تفاصيل القناطر، القناديل، البراويز الخشبية، الأسطوانات وغيرها من الأثاث. ونُثرت حبّاتُ بخور شكّلت سحابةً لطيفة راقية أحاطت بمكان بُني بالتعب والخشب لينبت عشبُ الحكاية بين شقوق ضوءٍ تمازج مع ألوان داكنة قليلاً. فكَوَّنت أجواءً معتمة هي سمة مشتركة لأغلب الوثائقيات. لماذا ترسم الحنين بوجه حزين؟ وجه عكاشة حضر أيضاً من خلال شبيهٍ له. جلس بين أوراقه. مرّ بين المشاهد لا ليسدّ نقصاً أو يتمّم معنى. كان عنصراً من عناصر الإخراج. رافق مقاطع بصوت عكاشة أو بلسان إحدى شخصياته، مع موسيقى شرقيّة بنغم الشجن الذي لا يُبهج، لكنّه لم يُزعج. إجمالاً، الإخراج نجح بالدخول بين الشهادات. فانتعلت اللقطات كعباً عالياً من الناحية الجمالية الوجدانية. لكنّها تعثّرت بتكرارات وهفوات على صعيد التقطيع. فتلكّاً إيقاع العمل. لكنّه بقي واقفاً. لا يتهاون في استقبال ضيوفه من نقاد، كتّاب، مخرجين، الإبنة نسرين وممثلين وممثلات. ملأ إبريق الذكرى والامتنان عينَيْ إلهام شاهين التي جزمت بأن «تغييرَ حرف واحد من حوار عكاشة أمرٌ صعب». صابرين قالت إنه «يكتب الكلام بنغم موسيقي». شرّحت لوسي ورقه الذي تفيض منه تفاصيل. غلبتْها «دموع الحب للأخ والأب والصديق».


الإعداد غنيٌّ بمضمون موادّ شكّلت الركيزة لبناء الهرم العكاشيّ توثيقياً. فحوّم العمل حول جهاته المتنوّعة. ورافق رحلته من البداية إلى القمة. بدأ مع الطفل أسامة الذي تُوفّيت والدته وهو ابن سبع سنوات. إنزوى في غرفة مليئة بالكتب. لم يخرجْ منها كما دخلَها. لم يحلّلْ المشاركون كيف زُرع لغم حرمانه من الأم في شخصياته الدرامية. اكتفوا بالقول إنه أحدث ثورة بتقديمه زوجة الأب في أعماله كنموذج صالح. اعتبروها تحيّةً لزوجة أب حَضنتْه. كان معروفاً عنه أنه يحيط حياتَه الشخصية بأسلاك تمنع تسلّلات الإعلام. تُتَمَّم هذه الوصيّة بإبعاد الجوانب الشخصية عن غرف الوثائقي (ربّما بطلب من العائلة، أو بقرار من القائمين على العمل). أمّا مرضه فحضر فقط من خلال علاقته مع الكتابة. في أيّامه الأخيرة، أجاب عكاشة على اتصال صديقه الممثل نبيل حلفاوي: «أنا سِبْت القلم!». بعدها أودع جسده في ذمّة الحبر عام 2010، عن 69 عاماً. أشعل شموعها بأقلام حبر كتب بها - وبخطّ يده - حلقاتِه مصحوباً (كما يروي في حواراته) بالموسيقى الكلاسيكية الغربيّة وأغاني فيروز. غاب النوعان عن جوّ العمل الذي أَخرَج من جارور عكاشة، صفحات مسلسلاته. كان يزيّنها بروسومات وأشكال هندسيّة. يحضنها بلهفة الأب ويلوّنها بمتعة الطفل. وكما تلافى العمل الخصوصيّات، تجنّب الفرضيات. لم يطرحْ أسئلةً افتراضية عن موقف أسامة لو كان على قيد الحياة والإنتاج في يونيو 2011 وما تلاه من تغييرات وأزمات. هو الذي عنوَن إحدى مقالاته بـ» مصر تنتظر، فلا تُبطئوا». وشدّد، بشخصيّات أعماله، على أهمّية وحتميّة التغيير من خلال القوّة الجماعيّة.

أهميّة هذه القوّة الجماعية هي محور اساسيّ في الوثائقي. قارب المشاركون عكاشة كصائغ للتاريخ والوعي، وكغائص في الهوية الإنسانية والمصرية مع اختلاط الثقافات والطبقات في ظلّ حقبات سياسية ترجمتها الشخصيات بأفعالها ولسانها. هو يعتبر «الحيادَ في الفنّ أكذوبة». درس الفيلم أبرزَ أعماله وغابت أخرى. لم يشرح أسباب تفاوت مستوى نجاحها فنّيا وجماهيريّاً. وكمسلسلاته التي جمعت كل الطبقات الاجتماعية، فإنّ اسمه دخل إلى بيوت كل الفئات. «رئيس حزب التجمّع فضّ اجتماعاً حزبياً ليتسنى للمشاركين متابعة حلقة من ليالي الحلميّة». حواراته وأفكاره توّجَتْه «الأديب التلفزيونيّ». ورغم النجاحات، يؤكّد المعلّق أنّ» إخفاقاته الروائية بقيت حقيقة مرّة». كما ينقل صحافيّ قول عكاشة للكاتب خيري شلبي: «خُذْ كل أعمالي التلفزيونية وأعطني واحداً من كتبك». بقي وفيّاً للرواية حبيبته الأولى، هو الذي يعترف أنّه وأبناء جيله خرجوا من عباءة نجيب محفوظ. علّق صورة لهما - في مكتبه - لترسيخ «التناغم» بينهما، بين الورق والصورة في الحارة المصرية وشخصيّاتها.

مع مرور الزمن، تتطوّر الرؤية لأنّ العين تتغيّر. ونحتاج إلى نظّارت تستدلّ إلى القريب والبعيد في مسيرة كاتب تحوّل إلى بطل. افتتح اسمه شارات المسلسلات بصيغةٍ جديدة تُكرّم الكاتب. أعطى قيمة للمسلسل الرمضانيّ الإجتماعي. عملُه هو بطله. لم يغيّر ورَقه ليتعامل مع عادل إمام. لم ينتظرْ تفرّغ َأحمد زكي للبدء بالتصوير. هذا العمل من الوثائقيّات شبه النادرة التي تحيي كاتباً درامياً. يقبّل ويشكر اليد الأولى التي بَنَت. يتلمّس جلدها ويقرأ في خطوط يد الرواية العُكاشيّة. رواية ولأهميّتها، تحتاج إلى قراءات تتابع التدقيق والتفاصيل. لا لتخرج فقط الشياطين الكامنة بينها، ولكن لتتجلّى مكانة سلاطين التميّز.



بنى بقلمه هرم الهمّ المصري




زاوية أخرى من الديكور



من الديكور الخاصّ بالوثائقيّ


MISS 3