إستقرت الملحقة الثقافية ليانا (41 عاماً) مع عائلتها داخل صف ذي جدران باهتة في بداية شهر تشرين الأول، بقرار من بلدية «ماسيس» التي تشمل 22 ألف نسمة، على بُعد بضعة كيلومترات من يريفان، عاصمة أرمينيا.
وُضِعت أيقونة «العائلة المقدسة» على أحد الرفوف، إلى جانب كتاب صلاة. إنها الأغراض الوحيدة التي حملها أفراد العائلة معهم في 25 أيلول، حين طردهم الأذربيجانيون من «ستيباناكيرت». كان ذلك اليوم كابوساً حقيقياً. تتذكر الأم تلك اللحظات قائلة: «في صباح ذلك اليوم، حين كنتُ أوزع الطعام على مراكز جمعية تقدم المساعدات الغذائية، سمعتُ صوت انفجار قوي». علمت لاحقاً بانفجار مستودع للوقود كان يقصده المدنيون الهاربون من القوات الأذربيجانية للتزود بالإمدادات، ما أسفر عن مقتل 170 شخصاً منهم. تضيف الأم: «بعد وقتٍ قصير، بدأت عمليات القصف. ركضتُ لأخذ أولادي من المدرسة، لكني لم أجدهم. بحثتُ عنهم لساعات ولم أعثر عليهم قبل المساء. ركبنا في السيارة من دون المرور بالمنزل لأن الجنود كانوا يطلقون النار على السكان الذين يحاولون العودة إلى منازلهم لأخذ أغراضهم».
في تلك الليلة، انضمت ليانا وعائلتها إلى 120 ألف شخص من سكان «آرتساخ» (الاسم الأرمني لمنطقة «ناغورنو كاراباخ»). تشرّد هؤلاء على الطرقات وطُرِدوا من أراضي أجدادهم هرباً من تقدّم القوات الأذربيجانية.
تمتد هذه الأحداث الدراماتيكية على خمسة فصول: كانت «آرتساخ» المهد التاريخي لأرمينيا الكبرى، ثم أعيد ربطها بأذربيجان بقرار من ستالين في العام 1921. عند سقوط الاتحاد السوفياتي في العام 1991، قررت تلك المنطقة المسيحية المدعومة من أرمينيا، حيث تصل نسبة السكان الأرمن إلى 95%، إعلان استقلالها. مهّد هذا القرار لتصاعد الاضطرابات مع أذربيجان. خرجت «آرتساخ» منتصرة من أول صراع في العام 1994، لكنها عادت وخسرت ثلاثة أرباع أرضها بعد حرب الأربعة والأربعين يوماً في العام 2020. في تلك الفترة، احتفل رئيس أذربيجان، إلهام علييف، «بطرد الأرمن كالكلاب». لكنه لم يستحوذ حينها على الربع المتبقي من أرض «آرتساخ». كان الهجوم العسكري في 19 أيلول 2023 بمثابة نهاية دموية ووحشية للغزو الذي بدأ قبل ثلاث سنوات.
يقول دافيد هامباردزوميان: «لا تقتصر المشكلة على الأراضي، بل إنها مسألة ثقافية ودينية أيضاً». يوافقه الرأي رئيس أبرشية «آرتساخ»، فرتانيس أبراهاميان، الذي أصبح منفياً في إحدى ضواحي يريفان، في «إتشميادزين»، مقر الكنيسة الرسولية الأرمنية. يقول هذا الأخير: «وُلدتُ هناك، وأعرف الأذربيجانيين جيداً. يريدون محو أي آثار متبقية للوجود الأرمني في آرتساخ لإقناع العالم أجمع بأن هذه الأرض تنتمي تاريخياً إلى أذربيجان. تحوّلت أحدث الكنائس إلى مساجد. في المقابل، تدمّرت أقدم الكنائس، أو أصبحت مهجورة، أو جُرّدت من نقوشها ورموزها الأرمنية. يريدون أن يزعموا أنها في الأصل كنائس ألبانية استولى عليها الأرمن حين وصلوا إلى آرتساخ. إنها محاولة فاضحة لإعادة صياغة التاريخ ومنعنا من العودة إلى أرضنا القائمة منذ قرون طويلة». تهدف هذه السياسة إلى اعتبار المباني الدينية (يصل عددها إلى 1500 تقريباً) ألبانية الأصل، وهي ترتكز على فرضية يحبذها إلهام علييف وأسلافه، حيث يُعتبر الأذربيجانيون أحفاد المملكة المسيحية الألبانية القديمة في القوقاز. نشأت هذه الفكرة في الحقبة السوفياتية، وسرعان ما تحولت إلى أداة لاكتساب الشرعية السياسية.
من بين جميع المشقات التي تحمّلها هؤلاء الأرمن بعد اقتلاعهم من أرضهم، يبقى الإلغاء الثقافي وإعادة صياغة تاريخهم الأسوأ على الإطلاق. تقول ألينور المتطوعة في جمعية «SOS مسيحيي الشرق»: «عندما نسألهم عمّا يحتاجون إليه حين يصلون وهم في حالة حادة من سوء التغذية ولا يحملون معهم شيئاً، حتى أن البعض يصل بلا أحذية، يجيبون ببساطة أنهم لا يريدون أن ينسى أحد تاريخ بلدهم الصغير».
تؤكد آنيا على أهمية هذا العامل. تجلس المرأة الخمسينية على سرير موقّت في تلك المدرسة الصغيرة في «ماسيس»، تذرف دموعاً سخيّة أمام حفيدَيها اللذين يبلغان 7 و8 سنوات على التوالي. خلال حرب الأربعة والأربعين يوماً، اضطرت هذه المرأة لمغادرة بلدتها الأم التي أصبحت تحت سيطرة أذربيجان. تركت وراءها ماضيها ولجأت إلى العاصمة «آرتساخ» بعد تعرضها لإصابة بالغة. عادت الحياة إلى طبيعتها في المرحلة اللاحقة إلى أن أطلق الأذربيجانيون أقوى هجوم عسكري في ذلك اليوم من شهر أيلول. تقول بأسى كبير: «حين شاهدتُهم وهم يُسقِطون صليب ستيباناكيرت الكبير، فقدتُ الأمل بالكامل. وضّبنا حقائبنا وركبنا في حافلة. أصعب ما في الأمر هو أننا اضطررنا لترك النصب التذكاري الذي عُلّقت عليه صور جنود سقطوا في ستيباناكيرت. لا شك في أنهم عادوا ودمّروه. من سيتذكر تضحياتهم لاحقاً»؟
أمام أدراج دار بلدية «ماسيس»، يدين المدرّس رشيد (58 عاماً) التطهير العرقي الذي تعرّض له الارمن في صمت عالميّ مطبق قائلاً: «سبق ودنّس الأذربيجانيون مقابرنا بعد حرب الأربعة والأربعين يوماً. لهذا السبب، جلبت والدة الصبيَين المذبوحَين في سارناغبيور رفاتهما إلى ماسيس لدفنهما. يدمر الأذربيجانيون ذكرياتنا ويريدون اختلاق تاريخ جديد. أرجو منكم أن تخبروا العالم أجمع بأن آرتساخ أرمنية»!
يشعر اللاجئون الأرمن بأنهم يصرخون في صحراء قاحلة. يقول أبراهاميان بيأس: «نشعر بأننا متروكون وبأن الجميع تخلى عنا، بما في ذلك الحكومة الأرمنية التي اعترفت بأن آرتساخ تنتمي إلى أذربيجان. لماذا يرفض المجتمع الدولي سماع صراخنا لكنه يهبّ لمساعدة أوكرانيا»؟
يعتني بعض الجمعيات الإنسانية باللاجئين من «آرتساخ»، لكن مواقف المسؤولين السياسيين أصبحت نادرة وخجولة. يقول النائب الأوروبي نيكولاس باي، الذي حضر إلى المكان مع ماريون ماريشال، رئيسة لائحة استعادة الانتخابات الأوروبية في العام 2024: «واجه سكان آرتساخ للتو هجوماً عسكرياً عنيفاً جداً وقوبل هذا التحرك بلامبالاة فاضحة». يُلمِح بموقفه إلى اتكال أوروبا على غاز أذربيجان.
يضيف باي: «الاتحاد الأوروبي منافق لأقصى حد. هو يتخذ القرارات للتعبير عن دعمه لأرمينيا لكنه يكثّف في الوقت نفسه علاقاته التجارية مع أذربيجان. من المشين أن يتفاوض على اتفاق لنقل الغاز مع علييف الذي أقدم للتو على ضمّ آرتساخ، بحجّة التوقف عن شراء الغاز من روسيا التي غزت أوكرانيا. الأسوأ من ذلك هو أن جزءاً من غاز أذربيجان يأتي من روسيا! تشتق هذه القرارات من عمى واضح في البصيرة، أو حتى تواطؤ مع تركيا، علماً أن أذربيجان تُعتبر جناحها المسلّح. هل يجب أن نُذكّر الناس بأن تركيا لم تتخلَ يوماً عن مشروع إعادة إحياء سلطنتها العثمانية المسلمة الكبيرة لكن تقف أرمينيا المسيحية عائقاً في طريقها؟ ما يحصل اليوم هو امتداد لإبادة العام 1915 بكل بساطة».
من وجهة نظر ماريون ماريشال، تبرز الحاجة إلى اتخاذ خطوات ملموسة تجاه تركيا وأذربيجان، أبرزها إعادة النظر بوجود تركيا داخل حلف الناتو وكبح حملة انتسابها إلى الاتحاد الأوروبي، ثم تعليق مشاركتها في المجلس الأوروبي. تضيف ماريشال: «إنها اقتراحات عادلة ويُفترض أن تترافق مع معركة رأي. حضرتُ بنفسي إلى أرمينيا لهذا السبب بالذات. أريد أن أجمع شهادات اللاجئين كي أنقل صوتهم إلى الرأي العام الفرنسي والمؤسسات الأوروبية».
أثرت هذه الكلمات بسامويل شاخرامانيان، رئيس جمهورية «آرتساخ» الحالي الذي يحرص على تجديد الأمل بعودة الأرمن إلى أرضهم. يقول من «مكتب التمثيل الدائم لجمهورية ناغورنو كاراباخ» في يريفان: «يمكن تحقيق هذا الهدف بأربعة شروط: منح «آرتساخ» مكانة دولية رسمية وحماية عسكرية دولية، وضمان استقلاليتها المالية، والسماح لها بالتواصل مع أرمينيا بكل حرية».
يُعبّر رشيد عن استعداده للعودة إلى أرض أجداده إذا تأكد من أنه سيكون بأمان هناك. تشاركه ليانا هذه الرغبة، فهي تريد أن تتابع نشر الغنى الثقافي الذي يتمتع به بلدها الصغير. لكنّ هذه الفكرة ترعب آنيا، وهي محقة في موقفها. يقول سامويل شاخرامانيان: «يربّي الأذربيجانيون أولادهم منذ عمر مبكر على كره الأرمن. يُعتبر الأذربيجاني الذي يقتل أرمنياً بطلاً قومياً».
لا يمكن أن ننسى الأذربيجاني راميل سافاروف الذي قطع رأس يورغن مارغاريان بالفأس حين كان نائماً، في العام 2004. كان مارغاريان ضابطاً أرمنياً في المجر حينها. حُكِم على القاتل بالسجن المؤبد، لكنه أُعيد إلى أذربيجان لاحقاً وأصدر إلهام علييف قرار عفو لصالحه منذ وصوله إلى باكو، واستقبله الناس هناك كبطل حقيقي وتمّت ترقيته إلى رتبة قائد عسكري.
يقول دافيد هامباردزوميان: «في ستيباناكيرت، بدأ تغيير أسماء الشوارع لتحمل أسماءً أذربيجانية. بلغت الوقاحة بالاذربيجانيين حدّ إطلاق اسم «أنور باشا» على أحد الشوارع، وهو من تولّى تنظيم الإبادة الأرمنية في العام 1915. في هذه الظروف، يصعب أن نتخيّل أي تعايش سلمي مع أذربيجان. نعيش في قلقٍ دائم من أن يستمر هذا التطهير العرقي ويمتد إلى بقية مناطق أرمينيا».
لا يمكن السكوت عن هذا الإلغاء المبرمج لجميع آثار المسيحية في الشرق. إنها صرخة أرمن الغرب. يقول نيكولاس باي: «نريد من خلال زيارتنا أن نُعبّر عن تضامننا الحضاري مع أول أمّة مسيحية في تاريخ البشرية».
في غضون ذلك، تستمر الطلقات النارية الأذربيجانية التي تستهدف المزارعين الأرمن في «فاردينيس»، بالقرب من الحدود مع أذربيجان، ويتعالى صوتها بانتظام لكسر الصمت هناك. لكن هل يمكنها أن تكسر أخيراً صمت المجتمع الدولي عن كلّ ما يحصل؟