د. منير الحايك

"ما رأت زينة وما لم ترَ"...مفارَقة الخراب ومتعة السرد

21 تشرين الثاني 2023

02 : 00

رشيد الضعيف

بدأت حركة «أدب الخراب» أو «أدب الأنقاض» (بالألمانية Trümmerliteratur) بعد الحرب العالمية الثانية في ألمانيا، ذلك النوع الأدبي الذي بدأه كتّاب ألمان من الشباب بعد انتهاء الحرب ومن خلال مشاهداتهم مدنهم المدمَّرة، فركّزت كتاباتهم على شخصيّات المهمَّشين، معتمدين جملاً قصيرة تنقل الواقع بمرارته وقسوته.

وتأتي رواية رشيد الضعيف الجديدة «ما رأت زينة وما لم ترَ» (دار الساقي 2024)، لتكون نصّاً منتمياً إلى ذلك النوع من الأدب، ولعلّ حجم الرواية الصغير، يكون مفتاحاً عميقاً لانتماء النصّ لهذه المدرسة، فالكاتب لم يعتمد جملاً وفصولاً قصيرة وحسب، بل جاء نصّه بكامله قصيراً لتبدأ القراءة وأنتَ مستفَزٌّ من قرار الضعيف بأن ينشر رواية ويصرّ على أنها «رواية» رغم عدد كلماتها القليل.

عرفتُ من المؤلّف أنّ النصّ كان مقرَّراً أن يكون سيناريو لفيلم سينمائي، إنما الأوضاع لم تسمح بإنتاجه فحوّله إلى رواية، ولكن طالما أننا أمام كتاب منشور ضمن تصنيف الرواية، فالرأي والتحليل سيُبنيان على هذا الأساس. تبدأ الرواية مع زينة المرأة الخمسينية التي تعمل لدى الستّ سوسن والأستاذ فيصل، ومع حركة زينة تنقل لنا الرواية أحوال بيروت، ذات يوم صيفي من أيام آب، وما يرافق ذلك من حوارات ومشاهدات تنقل لنا الحالة الاقتصادية حيث تخشى زينة ألّا يكفيها المال الذي أعطتها إياه سوسن لتشتري بعض الحاجيات...

زينة التي تعيش مع أختها ماري وابنتها بشرى، التي تركت الجامعة بسبب الأوضاع الاقتصادية تبحث عن عمل ولم تجد حتى الآن، بشرى التي لا تكمل حواراً مع أمها إلّا وينتهي بمشكلة وخلاف وتأنيب ضمير...

حتى الآن يضعنا النصّ أمام المشهدية الممهّدة لما سيحصل، مشهدية الأيام العادية لأناس عاديين في بيروت، الذين يختلفون على موقف سيارة ويتحاربون من أجله، ولكن يبقى النصّ ناقلاً لحالات لا تقدّم أيّ جديد لو أنها استمرّت على هذا المنوال. ولكنك تستمرّ بالقراءة، لفصول الرواية القصيرة، وجملها السريعة، ولغتها الجذلة المكثَّفة، مع تمهيد يعطي فكرة عن أبناء تلك البيئة الذين يؤمن بعضهم بفأل الشرّ وفأل الخير، حيث تبقى زينة تردّد دعاءها بأن يجيرنا الله من هذا اليوم، بعدما ينزلق فنجان القهوة ويسقط تمثال العذراء...

يحصل الانفجار في منتصف الرواية، بعدما تحيّي زينة جارتها التي تحمّم طفلها على الشرفة، فينقل إلينا النصّ ما لم تره زينة، من موت وتقطيع أجساد ودمار، ثمّ يتمّ إنقاذها ومداواة أختها ماري المصابة، وهنا يأتي الاتصال من جاد، ليطمئنّ على أمه الستّ سوسن ووالده، فتقرّر زينة الذهاب للاطمئنان عليهما، فتنقل لنا ما رأته... تصل، فتجد الستّ سوسن ميتة والأستاذ فيصل على كرسيه وفي يده «الريموت»...

ما رأت زينة هو الأعمق في هذا النص، فالخراب لم يكن هو بذاته المقصود، فكلّنا نعرف كيف حصل الانفجار وشاهدنا ما سبّبه، فلو أنّ نقل مشاهد الدمار والموت حكم النصّ لكان عاديّاً، ولكنه تحدّث عن واجهات البنوك الزجاجية المكسَّرة، وركّز على وهم الشفافية المقصود من ذلك الزجاج، ولبنان وناسه يكادون لا يجدون قوت يومهم بسبب تلك البنوك، فكأنّ المدينة، استغلّت ما حصل لها من جرّاء الانفجار، لتقضي على ذلك الوهم الذي يمثّله زجاج الواجهات، وهنا الحِرَفية في استخدام الرمزية.

ومن يتابع نتاج الضعيف الأخير، وفي روايتيه الأخيرتين تحديداً، حيث يعود إلى إحياء الميثولوجيا وقصص الخيال والخرافة، يجد أنّه لم يستطع أن يبتعد بنصّه هذا كلّيّاً عن ذلك الأسلوب، ومن خلال ثلاثة مشاهد سريعة، يستحضر حيوانات متنوّعة الانتماءات والقبول لدى الجنس البشري، فنجدنا أمام أسماك الزينة الذهبية، اللطيفة الوادعة، ولكنها في بحثها عن الماء من أجل البقاء تتغذّى من دم إحدى الضحايا، فنراها تعبيراً صارخاً عن أنّ الوداعة واللطف، من سياسيّ أو زعيم أو مدير أو زميل! سيتحوّلان مع صاحبهما إلى امتصاص الدم من أجل البقاء. أمّا الجرذان التي تعبّر عن الفساد والخوف والنفور، فنجدها تؤدّي دورها، حين تتجمّع وتغطي جسد ضحية ولا نعلم ما سيبقى من ذلك الجسد المسكين، هذه الجرذان هي الزعماء أنفسهم الذين لم يخبّئوا خبثهم وإجرامهم وفسادهم عندما كانوا ينهشون أجسادنا وما زالوا.

أما الطائر الأسطوري الضخم بحجم سيارة، والذي يحطّ أمام زينة وبشرى، ولا تستطيعان المرور إلّا بتجاوزه والدمار، فهو لم يستحضره ليكون طائر الفينيق الذي سيعود إلى الحياة من رماده، ويعبّر بشكل كلاسيكي مبتذَل عن بيروت ليقول لها «قومي من تحت الرَّدم»، بل ليعود هذا الطائر وينتفض ويوقع بشرى وزينة، فيكون هو نفسه المصيبة التي حلّت على المدينة من حيث لا تدري، ولكنه سيعود وينتفض بين الحين والآخر، ويوقعنا من جديد، فكأنّ النصّ يقول هذا هو قدر هذه المدينة.

مشهد واحد لم يستطع الضعيف أن يُخرِج نصّه من «سينمائيته» فيه، وهو مشهد الأستاذ فيصل حين يدير التلفاز، فينتقل السرد به بشكل سريع وعلى شكل نقلات مشهدية سينمائية، حيث الرجل «على كرسيّه مكسور الخاطر، مدركٌ لما يجري غير منتبه، أو منتبه لما يجري غير مدرك. أو ليس منتبهاً ولا مدركاً... «الأستاذ فيصل وعي غامض... في هذا المكان المدمَّر، كل شيء موجود وجوداً تامّاً في الذهن، لكن لا شيء في الواقع المرئيّ يشبه ما في الذهن والذاكرة»، هذا التقديم لشخصية الأستاذ فيصل في هذه اللحظة، وما يتبعها من أنه يرى ما سيقدّمه التلفاز بعد الانفجار، وسمّتها الرواية باسمها «مشاهد»: الأيام التي تلت وقوع الانفجار. وصول ماكرون واستقباله «استقبال المخلصين». المتطوعين من شبّان وشابّات. تصاريح المسؤولين المدنيين والدينيين، وبعدها قرارات استقالة القاضي المسؤول ومانشيتات جريدتين لبنانيتين متعارضتين... هذه السرعة السينمائية، جاءت ضربةً موفّقة خدمت السرد، لأنّ انتهاء النصّ مع الانفجار سيكون متوقَّعاً، أمّا إخبار المتلقي بما حصل بهذا الشكل السريع، فخدم النصّ «القصير»، نصّ الخراب والأنقاض.



غلاف الرواية


مأخذ واحد على الرواية، لا يؤثّر بالطبع على المتعة في قراءتها أو عذوبة لغتها، في مشهد مرّ سريعاً ولم يكن أساسيّاً، هو عندما ترى زينة في أحد الشوارع كتاباً مدرسيّاً، إحدى صفحاته مفتوحة بالصدفة على خبر انفجار مفاعل تشرينوبل، وأخرى على صورة مبنى مستشفى مهدّم من الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من أنّ الكاتب أراد أن يقرّب ما حصل من ذهن المتلقّي من خلال المقارنة، ولكنه برأيي استخدم مثالَين استُهلِكا كثيراً، فالقارئ يمكنه أن يفتح هاتفه ويسأل عمّا حصل في الرابع من آب، وكان على النصّ أن يدع له حرية البحث والمشاركة.

إنها رواية ممتعة، وهي من النوع الذي يمكنك أن تنهيه بجلسة واحدة، ولكنكَ تتروّى حتى لا تنتهي المتعة سريعاً. وهي كما ذكرنا من أدب الخراب، ولكن إن أردنا أن نحدِّد أدب الخراب المستمرّ في بلادنا منذ الأبد، فلن يستطيع احتواء أدبنا ونتاجنا الثقافي، ولا بدّ أن نبحث عن «مصطلحات» جديدة مختصة بأدبنا، كأن نقول عن رواية رشيد الضعيف الجديدة، إنها تنتمي إلى أدب «مدينة بيروت».


MISS 3