كيتي غرينوالد

برنامج التأشيرة الذهبية في البرتغال... هل يستحق العناء؟

27 تشرين الثاني 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

يوم 7 تشرين الثاني الذي شهد استقالة رئيس الوزراء البرتغالي أنطونيو كوستا وسط مزاعم فساد مرتبطة بعقود الليثيوم، داهم ضباط فدراليون في البرازيل القنصلية البرتغالية في ريو دي جانيرو. ,ذكر مصدر مطّلع أن تلك المداهمات البرازيلية لم تكن على صلة بالتحقيق الحاصل في لشبونة، بل إنها جزء من تحقيق منفصل يتعلق بتزوير وثائق بالتواطؤ مع مقدّمي طلبات لنيل التأشيرة والجنسية البرتغالية، وفق مصادر الشرطة البرازيلية.

منذ التسعينات، بدأ عدد كبير من البرازيليين ينجذب إلى البرتغال خلال فترات التراجع الاقتصادي والاضطرابات الاجتماعية. عندما أطلق البلد برنامج «التأشيرة الذهبية» في العام 2012، أصبح البرازيليون الأثرياء ثاني أكبر جماعة تستفيد منه.

تمنح تأشيرة البرتغال الذهبية الأجانب القدرة على دخول البلد مقابل الاستثمار فيه. ,واجه البرنامج منذ ظهوره بعد الأزمة المالية العالمية في العام 2008 ردود أفعال قوية، ثم زادت الانتقادات بحقه في السنوات الأخيرة، إذ يلومه الكثيرون على تفاقم أزمة الإسكان التي جعلت المنازل مقبولة الكلفة خارج إمكانات معظم البرتغاليين.

في بداية تشرين الأول، مرّرت حكومة كوستا الاشتراكية أخيراً قانوناً يستهدف هذه المسألة، فحذفت بند الاستثمار في العقارات من برنامج التأشيرة الذهبية. كان المستثمرون في ممتلكات تبلغ قيمتها 280 ألف يورو على الأقل (حوالى 305 آلاف دولار) مؤهلين لنيل التأشيرة في السابق. انعكس التغيير المستجد على جميع النُخَب العالمية، فقد بدأ جزء كبير منها يعتبر البرتغال مقراً يسمح لهم بدخول أوروبا. استفاد أكثر من 30 ألف أجنبي من تأشيرة البرتغال الذهبية، لكن لم تتضح منافع البرنامج على البرتغاليين بحد ذاتهم حتى الآن.

تقدم تسعة بلدان أوروبية أخرى تأشيرات ذهبية، لكن تبقى البرتغال الأكثر شعبية بينها. يتعلق السبب على الأرجح بتراجع المتطلبات المفروضة على المستثمرين وتوفير مسار مباشر لنيل الجنسية. تقول باتريسيا كازابوري، مديرة شركة هجرة الاستثمارات Global Citizen Solutions في لشبونة: «يجب أن يعيش الفرد في اليونان طوال سبع سنوات متواصلة قبل نيل الجنسية. لكن يكفي أن يجيد الشخص أبسط الكلمات المحلية في البرتغال ويحمل تأشيرة قانونية طوال خمس سنوات».

تزامن تصاعد عدد السكان الأثرياء في البرتغال مع ارتفاع كلفة المعيشة، لا سيما في مجال العقارات. وفق أرقام حكومية نُشِرت في أيلول الماضي، قبل شهر على إلغاء بند العقارات رسمياً من قانون «تكثيف الإسكان» الذي أقرّه كوستا، صدرت 12700 تأشيرة ذهبية. حصل مستثمرون في العقارات على أكثر من 11300 تأشيرة منها. في المدن الكبرى، مثل لشبونة وبورتو، تبدو آثار تلك العمليات واضحة. يقول ميغيل كويليو، رئيس أبرشية سانتا ماريا مايور التي تشمل معظم أجزاء وسط لشبونة، إن أكثر من ربع سكان الحي رحلوا منذ أن بدأ البرنامج يجذب الثروات الخارجية. أصبح أكثر من 60% من العقارات السكنية على شكل إيجارات قصيرة الأمد.

ينجم هذا النزوح عن رغبة المسؤولين في الاستفادة من السياحة، وعجز السكان المحليين عن المنافسة في السوق. منذ العام 2015، لم ترتفع أسعار بيع المنازل ثلاثة أضعاف فحسب، بل زادت أسعار الإيجارات بدرجة كبيرة أيضاً. في العام 2023، زادت الإيجارات بنسبة 36% رغم الحوافز الحكومية الرامية إلى عكس هذه النزعة. في غضون ذلك، لم تواكب العائدات الفردية هذه التطورات المتسارعة. لا يزال راتب البرتغاليين العاديين أقل من 20 ألف يورو، ويكسب أكثر من نصف العمال أقل من ألف يورو شهرياً، وفق أرقام السنة الماضية. وبما أن قيمة الإيجارات في وسط لشبونة تفوق الألفَي يورو شهرياً، بلغت المشكلة نقطة تحوّل محورية. كانت أعباء أزمة الإسكان تستهدف الفقراء بشكلٍ أساسي سابقاً، لكنها تؤثر اليوم على جميع البرتغاليين الراغبين في شراء منزل.

تتعلق انتقادات أخرى لبرنامج تأشيرة البرتغال الذهبية بالأمن القومي. بعد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، عبّرت المفوضية الأوروبية عن قلقها من غياب الإشراف على برامج التأشيرة الذهبية عموماً ودعت أعضاء الاتحاد الأوروبي إلى التخلي عن تلك البرامج تدريجاً. كذلك، دعت المفوضية الأوروبية إلى تعليق كامل للتأشيرات التي يحصل عليها الروس والبيلاروس.

مع ذلك، ازدهرت تلك البرامج في أنحاء أوروبا. في السنة الماضية، أصدرت إسبانيا واليونان تأشيرات إضافية بنسبة 60% على الأقل مقارنةً بالسنة السابقة. تقول كازابوري: «أتوقع أن تستفيد البلدان الأخرى التي تطبّق برامج التأشيرة الذهبية من التغيرات الحاصلة في سوق العقارات في البرتغال».

حتى الآن، ألغت حكومتان فقط برامجهما: المملكة المتحدة وأيرلندا. تتوقع كازابوري أن تنهي هولندا برنامجها أيضاً في كانون الثاني 2024. عندما ألغت أيرلندا برنامجها في شباط الماضي، أعطت إشعاراً قبل يوم واحد من تنفيذ القرار لمنع التهافت على تقديم الطلبات في ظل توسّع المخاوف الأمنية.

كما حصل في البرتغال، شكّل مقدّمو الطلبات الصينيون أكبر جماعة استثمارية في أيرلندا. يوضح جون بايكر من شركة LCR Capital Partners التي تساعد العملاء على نيل إقامة ثانية: «الصينيون هم أول المستفيدين من برامج التأشيرة الذهبية في أنحاء العالم». في البرتغال، حصل حوالى 5400 مستثمر صيني على تأشيرات ذهبية بدءاً من أيلول الماضي.

بعد الأزمة المالية في العام 2008، بدأت الشركات الصينية التابعة للحكومة بدرجة معيّنة تستثمر في البرتغال عبر مجموعة من الوسائل، بدءاً من المؤسسات المالية والعقارات، وصولاً إلى البنى التحتية الأساسية والموارد الطبيعية. يقول مراسل في الصين طلب عدم الإفصاح عن اسمه إن البرتغال أصبحت وجهة مفضّلة للأغنياء لأنها تتطلب الإقامة في البلد لأسبوع واحد في السنة. كل ما يوصلهم إلى الاتحاد الأوروبي هو خيار جاذب برأيه.

لا ترتبط الاستثمارات الصينية في البرتغال ببرنامج التأشيرة الذهبية بالضرورة، لكن يبدو النفوذ الصيني داخل البلد واسع النطاق. من بين المشاريع المؤثرة، تُعتبر «مؤسسة الشبكة الحكومية الصينية» أكبر مساهِمة في شركة تشغيل شبكة الكهرباء الوطنية. تقول كريستن غونيس، باحثة سياسية مرموقة في مؤسسة «راند» تُركّز على السياسة الخارجية الصينية والشؤون الأمنية: «تفترض الصين أن الدول الأكثر فقراً في أوروبا، مثل البرتغال، تلفت انتباه الآخرين. تظن الصين أنها قادرة على كسب الدعم لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية عبر زيادة حصصها الاقتصادية وتسهيل وصولها إلى أماكن مثل الموانئ والبنى التحتية».

في الفترة الأخيرة، اكتشف الأميركيون البرتغال ودققوا ببرنامج تأشيراتها الذهبية. بدءاً من أيلول الماضي، وصل عدد حاملي التأشيرات الأميركيين إلى 780. ربما أصبح الأميركيون جزءاً من هذه اللعبة في مرحلة متأخرة، لكنهم يتفوقون الآن على الصينيين باعتبارهم أكبر جماعة تنال التأشيرات. تضيف كازابوري: «وصل عدد كبير منهم تزامناً مع انتخابات العام 2020 وأزمة كورونا».

يقول جواو ريكاردو نوبريغا، شريك في شركة «رابوسو سوبتيل» التي تمثّل مقدّمي طلبات نيل التأشيرة الذهبية، إن المستثمرين الصينيين والأميركيين يحملون مواصفات مختلفة: «يتقاعد الأميركيون ويعيشون في هذا البلد، على عكس المستثمرين الصينيين».

منذ بدء التعديلات التي طاولت برنامج التأشيرات في الشهر الماضي، لا تزال خمسة مسارات استثمارية لنيل تأشيرة البرتغال الذهبية مفتوحة. لكن بعد إلغاء خيار الاستثمار في سوق العقارات، تراجعت معاملات كازابوري الشهرية في تشرين الأول بنسبة 75%.

على المستوى الوطني، لن تتضح تداعيات التعديلات الأخيرة قبل سنتين بسبب تراكمات الإجراءات المتّبعة. تزعم بعض شركات العقارات أن الطلب على الإسكان تراجع منذ الآن بنسبة 20%. لكن نظراً إلى غياب قوائم الجرد، لا تزال الأسعار مرتفعة.

رغم الجهود الأخيرة، لن تكون معالجة أزمة الإسكان في البرتغال سهلة بأي شكل. ونظراً إلى التفاوت القائم على مستوى القوة الشرائية بين المواطنين البرتغاليين ومن ينتقلون للعيش في البرتغال، بما في ذلك أشخاص من داخل أوروبا الغربية، يفتقر الشاري والمستأجر البرتغالي إلى المنافع بدرجة لا يمكن معالجتها. في العام 2021، بلغ متوسط الأجر السنوي للعاملين بدوام كامل في البرتغال حوالى 21 ألف دولار، مقارنةً بإسبانيا المجاورة (30700$)، وفرنسا (43800$)، وألمانيا (48500$). زادت المشكلة تعقيداً لأن 2% من المنازل البرتغالية فقط هي جزء من برنامج الإسكان العام، وهو واحد من أدنى المعدلات في الاتحاد الأوروبي.

في ما يخص نتائج التحقيق الجاري في ريو، يقول برازيلي يشارك في تسهيل نيل التأشيرات الذهبية إن خمس شركات من تلك التي تساعد مقدمي طلبات التأشيرات الذهبية على الاستثمار في البلد تبدو متورطة في ذلك التحقيق. يضيف المصدر نفسه أن القنصلية التي شهدت المداهمات الأخيرة في ريو كانت معروفة بإتمام طلبات التأشيرات مباشرةً.

لكن رغم هذا التحقيق الأخير بقضايا الفساد، يذكر موقع «بلومبيرغ» أن الشركات التي تسهم في تسهيل نيل التأشيرات الذهبية (وهي مساحة ناشئة ينتمي إليها نوبريغا، وكازابوري، وبايكر) ليست قلقة من إنهاء البرامج لأنها شركات كبيرة. في أوروبا، أنتجت التأشيرات الذهبية استثمارات مباشرة تفوق قيمتها 27 مليار دولار.

في الصيف الماضي، حين كانت التعديلات العقارية المتعلقة بالتأشيرات الذهبية مُعلّقة، شدّد نوبريغا على أهمية الاستقرار بالنسبة إلى المستثمرين. يؤكد كوستا بعد استقالته على أهمية هذا العامل أيضاً، بغض النظر عن الفضيحة الكبرى التي شوّهت سمعة أقرب الناس إليه (وُجِدت مغلفات مليئة بأموال نقدية وصلت قيمتها إلى 82900 دولار في مكتب رئيس موظفيه). قال كوستا منذ أسبوعَين، بعد إعلان رئيس البرتغال عن حل حكومته: «أريد أن أقول لكل من وضع ثقته في البرتغال إن الاستثمارات في قطاع الأعمال لا تزال مرغوبة ومحبذة اليوم وستبقى كذلك دوماً، وسنحرص على تقبّلها في جميع الظروف».


MISS 3