نيكولاي بيترو

أوكرانيا تواجه مشكلة في الحقوق المدنية

27 كانون الأول 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

فسيفساء مدمّرة في دير أرثوذكسي بالقرب من مطار دونيتسك | أوكرانيا، 11 نيسان 2015

في النصف الثاني من العام 2022، حين بدا انتصار أوكرانيا على روسيا احتمالاً وارداً، كانت الأصوات التي تشكك بسياسات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قليلة. اليوم، لا تزال الانتقادات المباشرة لاستراتيجية كييف العسكرية جزءاً من المحرمات، لكن بدأنا نشاهد على مواقع التواصل الاجتماعي في أوكرانيا نقاشاً صريحاً حول مستقبل البلد بعد الحرب والجهات التي ستتولى إعماره.

يكشف النقاش المرتبط بحرية المعتقد والصحافة وحقوق الأقليات في أوكرانيا أن البلد لن يصبح مجتمعاً منفتحاً وتعددياً في أي وقت قريب، حتى لو انتصرت أوكرانيا في الحرب.



يحمي الدستور الأوكراني حرية المعتقد. لكن منذ بدء الحرب، بدأت هذه الحرية تتدهور بالنسبة إلى الجماعات المرتبطة رمزياً بموسكو. تُعتبر الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية من أكبر الطوائف في البلد، وهي تحمّلت أثقل أعباء هذه الحملة القمعية. تعتبر الحكومة الأوكرانية هذه الكنيسة خاضعة للتأثير الروسي، مع أنها قطعت علاقاتها الإدارية مع الكنيسة الروسية الأرثوذكسية في العام 1990 وأنهت جميع روابطها الكنسية الرسمية معها في أيار 2022.

مع ذلك، تمت مصادرة أملاك الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية وأصولها ومواقعها المقدسة قبل سنوات من بدء الغزو الروسي الشامل، ويخضع أعضاء من رجال الدين فيها للتحقيق بسبب تُهَم على صلة بارتكاب جرائم ضد الدولة. في تشرين الأول 2023، اتخذ البرلمان الأوكراني أول خطوة لحظر الكنيسة بالكامل عبر المصادقة على مشروع قانون يحظر الجماعات الدينية «التابعة لمراكز نفوذ تقع خارج حدود البلد، في الدولة التي تنفّذ عدواناً عسكرياً ضد أوكرانيا».

تعرّضت حرية الصحافة، وحرية التعبير عموماً، لضربة مماثلة. أُقِرّ قانون إعلامي جديد في آذار 2023، وهو يوسّع نطاق الرقابة من جانب المجلس الوطني للبث التلفزيوني والإذاعي كي يشمل وسائل الإعلام المطبوعة والإلكترونية. تستطيع هذه الهيئة المؤلفة من ثمانية أعضاء أن تراجع المحتويات التي تنشرها جميع وسائل الإعلام الأوكرانية، وتحظر المواد التي تعتبرها تهديداً على البلد، وتُصدِر توجيهات إلزامية لمختلف وسائل الإعلام.

في العام 2024، من المنتظر أن تتوسع صلاحيات المجلس المرتبطة باستعمال اللغة في وسائل الإعلام بدرجة إضافية. بدءاً من شهر كانون الثاني مثلاً، سيزيد الحد الأدنى لنسبة اللغة الأوكرانية المستعملة على التلفزيون من 75 إلى 90%. وفي تموز، سيُمنَع استعمال أي لغات غير أوكرانية على القنوات التلفزيونية بالكامل في سياقات محددة. وجّهت جماعات صحفية انتقادات لاذعة لهذا القانون، فاعتبره هارلم ديزير، ممثل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في مجال حرية الإعلام، «انتهاكاً فاضحاً» لحرية التعبير.

على صعيد آخر، تبدو حريات المعتقد والصحافة متداخلة جداً مع حقوق الأقليات في أوكرانيا، لا سيما مسألة التعامل مع أكبر أقلية محلية: إنهم الأوكرانيون الموالون لروسيا. تعترف هذه الجماعة بإرثها الروسي من حيث اللغة، أو الثقافة، أو التاريخ، أو الدين.

يرفض معظم الأوكرانيين الموالين للروس اعتبارهم أقلية. هم يعتبرون أنفسهم مواطنين أوكرانيين بكل بساطة، ما يعني برأيهم أن الدستور يسمح لهم باستعمال أي لغة واعتناق أي ديانة أو ثقافة يفضّلونها، لا تلك التي تدعمها الدولة. لكن لا يعترف القانون الأوكراني بالروس كجزء من سكان أوكرانيا الأصليين، أو حتى كأقلية داخل أوكرانيا. لهذا السبب، يعجز هؤلاء عن المطالبة بحماية القانون لإرثهم الثقافي ولغتهم، إذ يتعارض هذا الجانب مباشرةً مع المادة العاشرة من الدستور الأوكراني.

في استطلاع جرى قبل ستة أشهر فقط على بدء الغزو الروسي، وافق أكثر من 40% من الأوكرانيين في أنحاء البلد على رأي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حين قال إن الأوكرانيين والروس «شعب واحد». تكشف الاستطلاعات منذ ذلك الحين أن تلك النسبة تراجعت بدرجة هائلة، مع أن تقديرات المحلل السياسي كوست بوندارينكو تثبت أن 8 أو 10% من الأوكرانيين على الأقل لا يزالون موالين لروسيا حتى الآن.

من المتوقع أن تتصاعد الاضطرابات المحيطة بحقوق الأقليات بعد انتهاء الحرب. كجزءٍ من مفاوضات أوكرانيا المرتبطة بانتسابها إلى الاتحاد الأوروبي، في العام 2022، مرّر البلد قانوناً يُحدد حقوق الأقليات الوطنية، لكنه يحرم الناطقين باللغة الروسية من الحماية في فترة تطبيق القانون العسكري وخلال السنوات الخمس اللاحقة.

طلب الاتحاد الأوروبي تقصير تلك المدة، لكن تُوسّع النسخة الأخيرة، التي تم التوقيع عليها كقانون رسمي حديثاً، الحقوق اللغوية للأقليات كي تشمل اللغات الرسمية في الاتحاد الأوروبي، لكنها تحرم الروس بالكامل من تلك الحقوق.

طُرِحت معظم هذه القوانين الصارمة على شكل اقتراحات للمرة الأولى قبل العام 2022. لكن منذ بدء الغزو الروسي الشامل، تسارع تنفيذها لإطلاق ما يحب القوميون اعتباره بداية نسخة جديدة من حقبة «ما بعد الاستعمار» في تاريخ أوكرانيا. من المتوقع أن تكون هذه العملية الانتقالية طويلة، ومكلفة، وخطيرة.

رغم تصاعد المشاعر المعادية لروسيا بدرجة هائلة خلال الحرب، تظن المحللة البارزة إيلا ليبانوفا أن المشاعر المؤيدة لروسيا ستتجدد حتماً بعد نهاية الحرب. لكن لا يستطيع أحد أن يتوقع توجهات الرأي العام طبعاً، لا سيما إذا استمرت الحرب لسنوات عدة.

مع ذلك، ثمة أمر مؤكد واحد: لن يتقبّل سكان شرق أوكرانيا وجنوبها، سواء كانوا موالين لروسيا أو لم يكونوا كذلك، تحويلهم إلى كبش محرقة في هذا الصراع وحرمانهم جماعياً من حقوقهم المدنية والسياسية. يبدو نطاق الاقتراحات التي يفكر بها المشرعون الأوكرانيون صادماً. تقول تاميلا تاشيفا، ممثلة زيلينسكي في شبه جزيرة القرم، إن 200 ألف شخص من سكان شبه الجزيرة سيواجهون تُهماً بالتواطؤ إذا تحررت هذه المنطقة قريباً، وقد يتم ترحيل بين 500 و800 ألف آخرين. في السياق نفسه، يقول رفعت تشوباروف، رئيس المجلس الوطني لتتار القرم، إن ما يفوق المليون شخص (أكثر من نصف السكان الحاليين) سيضطرون للرحيل «فوراً».

يخطئ من يظن أن الوحدة التي نشأت خلال المعارك نجحت في مداواة جميع جراح الماضي. يوضح بوندارينكو: «نحن نحارب ضد روسيا، لكن لا يعني ذلك أننا نحارب من أجل أوكرانيا. هذه هي المشكلة. هذه هي الكارثة الحقيقية».

يتفق جميع الأوكرانيين على ضرورة استرجاع وضع طبيعي لإنهاء تلك المشكلة. لكن يقف الإجماع عند هذا الحد: إذا كان الوضع الطبيعي مرادفاً لتحسين العلاقات مع روسيا، من المعروف أن هذا التطور هو أكثر ما يخشاه القوميون الأوكرانيون والحكومات الغربية. بالنسبة إلى تلك الحكومات، تعني هذه الخطوة فشل السياسة المعتمدة منذ عقود لإبعاد أوكرانيا عن نطاق النفوذ الروسي وتقريبها من الغرب. ومن وجهة نظر القوميين الأوكرانيين، يعني ذلك الوضع فشل الحلم القومي: لطالما حلم هذا الفريق بتطوير أو بناء كيان أوكراني قوي ومتجانس، ما يعني نشوء مجتمع يحمل العقلية نفسها، ويتكلم باللغة الرسمية، ولا يختلف حول قضايا البلد الكبرى.

تتجاهل هاتان المقاربتان ما يريده معظم الأوكرانيين. هم يرغبون في تطبيق سياسات تعامل جميع السكان بكرامة وتضمن لهم حماية متساوية بحكم القانون. لكن لا يمكن تحقيق هذا الهدف طالما لا يقتصر أعداء الحكومة على كل ما هو روسي بل يشملون أيضاً الفئات «الأوكرانية الشائبة». هذا الوضع جعل جزءاً كبيراً من المواطنين يختبرون هجرة داخلية ولا يعتبرون الدولة دولتهم. برأي المحلل السياسي الأوكراني أندريه زولوتاريف، تطرح هذه الظروف مشكلة كبيرة جداً بالنسبة إلى بلد يخوض الحرب.



MISS 3