يسمّيه البعض «هرمون دراكولا» لأنه يظهر ليلاً ويخمد نهاراً، لكن يعرفه معظم الناس باسم الميلاتونين الذي يرتبط في عقولنا بفترة الليل والنوم. يأخذه ملايين الراشدين لمعالجة مشكلة الأرق، أو فرق التوقيت بين البلدان، أو لتحمّل نوبات العمل الليلية.
يظن الكثيرون إذاً أن الميلاتونين هو الحل لمشاكل النوم. لكن منذ ربع قرن تقريباً، نشر باحثون مقالة ضد «الهوس بالميلاتونين» في مجلة «الخلية»، فكتبوا: «يبدو أن قدرة الميلاتونين على تسهيل النوم تم تجميلها. لمعالجة هذا الهوس بالميلاتونين، يجب أن نتجاهل المبالغات والاستعراضات ونُركّز على اختبار النظريات والنتائج العلمية المنطقية». لكن لم يتنبّه الكثيرون إلى هذا التحذير، فزاد استعمال الميلاتونين بخمسة أضعاف بين العامين 1999 و2018.
أين تكمن الحقيقة؟ هل يُحسّن الميلاتونين النوم فعلاً؟ تكشف الأبحاث الناشئة أننا أسأنا فهم تأثيره على الجسم والدماغ. ما هي الفئات التي تستفيد منه إذاً وأي مخاطر يطرحها؟
لاستكشاف تأثير الميلاتونين، يجب أن نفهم أولاً طريقة تنظيم النوم. يبرز في المقام الأول مفهوم «ضغط النوم»: كلما طال السهر، تطلق خلايا الدماغ عنصر الأدينوزين الكيماوي. يكبح الأدينوزين الحوافز ويزيد الرغبة في النوم. تعيق مادة الكافيين مستقبلات الأدينوزين مثلاً، وهذا ما يفسّر قدرتها المؤقتة على إخماد التعب.
النوم عملية ذات تصميم معقد، ويسهل أن تضطرب دورته بسبب فرق التوقيت بين البلدان أو نوبات العمل الليلية. يرتبط هذان العاملان بوجود تفاوت بين إيقاعات الساعة البيولوجية الفطرية والبيئة الخارجية.
ليس مفاجئاً أن يعتبر الكثيرون الميلاتونين حلاً لمشاكل النوم، إذ ترتبط حاجتنا إلى النوم بتقلبات هذا الهرمون، لذا يعتبره الناس حافزاً للنوم. في البداية، أصبحت هذه الفكرة شائعة بسبب تقارير انتشرت في السبعينات عن أشخاصٍ تعرّضوا للشلل من العنق إلى أسفل أجسامهم بسبب إصابات في العمود الفقري، فعجزوا عن إنتاج الميلاتونين نتيجة تعطّل الإشارات العصبية وتدهور نومهم بشدة. يقول راسل فوستر من جامعة أكسفورد: «ظن الناس أن غياب الميلاتونين مرادف لتدهور النوم». لكن قارن الباحثون لاحقاً هذه الاستنتاجات مع أشخاصٍ تعرّضوا لإصابات في العمود الفقري وتأثرت حركة سيقانهم حصراً، لكن من دون أن تتأثر إشاراتهم العصبية الخاصة بالميلاتونين، ما يعني أنهم يستطيعون إنتاج الهرمون. بقي نومهم سيئاً بالدرجة نفسها، ما يعني أن تدهور النوم في هذه المجموعات لم يكن على صلة بإنتاج الميلاتونين.
تبيّن أيضاً أن الميلاتونين يلعب أدواراً أخرى، فهو مضاد للأكسدة والالتهابات وينظّم استقلاب الطاقة، بما في ذلك وزن الجسم، وحساسية الأنسولين، وتحمّل الغلوكوز، ويسهم في السيطرة على ضغط الدم.
هل يُسهّل الميلاتونين النوم إذاً؟ يتوقف الوضع على الفئة المستهدفة ومدة النوم التي يسعى إليها الفرد. عملياً، تزيد مكملات الميلاتونين مدة النوم ببضع دقائق (لا ساعات) لدى معظم الراشدين.
كذلك، يبدو استعمال الميلاتونين لفترة قصيرة مع الأولاد آمناً نسبياً. في العام 2014، اجتمع باحثون في روما لمناقشة هذا الموضوع ولم يجدوا أدلة تثبت أي آثار معاكسة لدى الأولاد، مع أنهم اعترفوا بأن هذا الاستنتاج مبني على تجارب محدودة. تسود مخاوف من احتمال تأخير النمو الجنسي لدى الأولاد عند استعمال الميلاتونين لفترة طويلة، من خلال وقف تراجع مستوياته ليلاً في بداية سن البلوغ. تذكر دراسات أولية أيضاً أن استعمال الميلاتونين قد يؤخر سن البلوغ أو يُسبب العقم.
لكن حصلت معظم الدراسات على القطط، والجرذان، والفئران، وقوارض الهامستر، لا البشر. لحسن الحظ، كشفت دراسة على ثمانين طفلاً ومراهقاً (معظمهم مصاب بالتوحد)، في العام 2021، أن الميلاتونين لا يؤثر على نمو الأولاد وتطورهم الجنسي رغم تلقيهم جرعة ليلية تصل إلى 10 ملغ طوال سنتين.
كما هو الوضع مع جميع المكملات، يجب أن يُخزَّن الميلاتونين في المكان المناسب. يُعتبر هذا الهرمون من أكثر المنتجات التي يستهلكها الناس تحت عمر التاسعة عشرة عن طريق الخطأ، وقد زاد العدد السنوي بنسبة 530% بين العامين 2012 و2021. خلال هذه الفترة، احتاج خمسة أولاد إلى التهوية الميكانيكية وتوفي اثنان آخران.
أخيراً، يجب أن تفكر بعامل مؤثر آخر قبل أن تأخذ حبة ميلاتونين كل ليلة: يصعب تحديد محتوى الحبوب الموجودة في العبوات الشائعة. يشتق الميلاتونين المُصمّم للاستعمال البشري من الخنازير عموماً أو يتم إنتاجه اصطناعياً. تقول لورين إيرلاند من جامعة «فريزر فالي» في مقاطعة كولومبيا البريطانية في كندا إن هذا النوع من المنتجات يصعب تمييزه عن النسخة التي ينتجها الجسم. لكن لا تضطر الشركات لاختبار الحبوب للتأكيد على كمية الميلاتونين التي يسوّقونها.
في العام 2017، حللت إيرلاند وبرافين ساكسينا من جامعة «غيلف» في أونتاريو، كندا، 31 مُكمّلاً من الميلاتونين من متاجر وصيدليات محلية في «غيلف». كانت كمية الميلاتونين أقل من تلك الواردة على العبوة أو المغلّف بـ83% أو أعلى منها بـ478%. وفي 71% من المكملات، لم تكن الكمية ضمن هامش العشرة في المئة من النسبة المعلنة. حتى أن قرصاً قابلاً للمضغ وخاصاً بالأولاد شمل 9 ملغ من الميلاتونين بدل 1.5 ملغ.
هذه الكميات المرتفعة بدرجة غير متوقعة لا تُضِرّ معظم الناس. لكن تزيد المخاطر المحتملة في المجموعة التي تأخذ أدوية قد تتفاعل مع الميلاتونين، أو المصابين بحالات صحية تزيد احتمال تعرّضهم لآثار الدواء الجانبية.
كذلك، كان ربع المكملات التي خضعت للاختبار يحتوي على السيروتونين الذي يسبق إنتاج الميلاتونين ويخضع لمراقبة أكثر صرامة. إنها كمية ضئيلة ويستبعد الباحثون أن تعطي نتائج صحية مؤثرة. هم يفترضون أنها تشتق من خلاصات نباتية في بعض المكملات، لكن يصعب تفسير وجودها في المكملات التي تفتقر إلى تلك الخلاصات.
ما معنى هذه الاستنتاجات كلها؟ أحدثت الأدلة الأخيرة حول تراجع فعالية الميلاتونين لتسهيل النوم لدى الراشدين تغيراً جذرياً في توجيهات بعض الهيئات الاحترافية، مع أن توصيات البعض يتعارض مع نصائح الجهات الأخرى في معظم الأوقات. تدعو «الأكاديمية الأميركية لطب النوم» مثلاً إلى عدم استعمال الميلاتونين لمعالجة الأرق المزمن لدى الراشدين (أي حين يتكرر الأرق بمعدل ثلاث مرات في الأسبوع على الأقل طوال ثلاثة أشهر). لكنها تعترف في المقابل بمنافعه لمعالجة الإرهاق الناجم عن فرق التوقيت بين البلدان، شرط أن يُؤخَذ «في الوقت المناسب». لا تُحدد الأكاديمية ذلك الوقت للأسف، مع أنها تذكر في توصياتها للمرضى أن الأطباء يوصون بأخذ الميلاتونين قبل موعد الإيواء إلى الفراش، بدءاً من الأيام التي تسبق الرحلة، ثم يجب أن يتابع الفرد أخذه لبضعة أيام بعد وصوله إلى وجهته. لكن تتعارض هذه التوصيات مع نصائح «المعهد الوطني البريطاني للصحة وجودة الرعاية»، فهو يدعو إلى أخذ الميلاتونين لمدة تصل إلى خمسة أيام، على أن تُؤخَذ الجرعة الأولى في موعد النوم بعد الوصول إلى الوجهة النهائية.
تذكر «الجمعية الأوروبية لأبحاث النوم» أن الميلاتونين لا يوصى به عموماً لمعالجة الأرق نظراً إلى تراجع فعاليته. لكن تعتبر «الجمعية البريطانية لعلم الأدوية النفسية» مادة الميلاتونين مفيدة لاستهداف اضطرابات دورة النوم واليقظة المتأخرة، بما في ذلك فرق التوقيت بين البلدان، وصعوبة الاستغراق في النوم أو الاستيقاظ في الوقت المنشود، لكنها تعترف باحتمال استعمال الأنظمة السلوكية أيضاً.
إذا كنت تفضّل تجنب جميع أنواع الأدوية، قد تفكر باستهلاك مأكولات ومشروبات غنية بالميلاتونين لتحسين نوعية نومك. تتعدد الأغذية التي تسهم في تسهيل النوم وفق بعض المصادر، منها الجوز، والبرتقال، والعنب، والبيض، ومشتقات الحليب، والنبيذ. لكن يشكك ديفيد كيناواي من جامعة «أديلايد»، أستراليا، بمنافعها للأسف. تكشف مراجعته لدراسات حللت آثار الأغذية الغنية بالميلاتونين أن معظم الأبحاث كانت شائبة وغير حاسمة في تقييماتها.
يستنتج كيناواي أن كمية الميلاتونين في الأغذية التي يُفترض أن تحتوي على نسبة كبيرة من الهرمون لا تعطي أي أثر فيزيولوجي على الأرجح. بدل تغيير الحمية الغذائية إذاً، توصي معظم المنظمات الصحية بالخضوع للعلاج السلوكي المعرفي كأول خيار علاجي للأرق، إذ تتعدد الدراسات الجديدة التي تعطي نتائج واعدة في هذا المجال. لكن حين تتفاقم مشكلة قلة النوم، تستدعي الحالات اليائسة تدابير يائسة بالقدر نفسه. فوستر شخصياً لجأ إلى هرمون الميلاتونين حين كان يسافر بشكلٍ متكرر بين بريطانيا وأستراليا. هو لم يستفد من هذا العلاج، لكنه تابع أخذه تحسباً لأي تدهور إضافي، ولم يوقف أخذ المكملات إلا حين بدأت تُعكّر مزاجه (إنه جزء من الآثار الجانبية النادرة التي تنجم عن آلية لا تزال مجهولة).
في مطلق الأحوال، يبقى احتمال التنعم بنوم هانئ طوال الليل جاذباً للكثيرين، ولا شيء يشير إلى انحسار شعبية مكملات الميلاتونين في أي وقت قريب، رغم غياب الأدلة التي تثبت منافعها في معظم الحالات. في جميع أنحاء العالم، يتابع الناس إخراج هذه المكملات من عبوات الأدوية كل مساء، ولا تزال ظاهرة «هرمون دراكولا» مستمرة حتى الآن.