جوزيف باسيل

"الجمهورية الخامسة الحل للمعضلة اللبنانية"...

المشكلة في الشعب ومذاهبه وليست في الدستور

6 كانون الثاني 2024

02 : 02

قفز الأب ميخائيل روحانا الأنطوني بالزمن من الجمهورية الثانية في لبنان الى الجمهورية الخامسة، علماً أنّ البعض يعتبر أننا ما زلنا في الجمهورية الأولى، لأنّ التعديلات على دستور1926، لم تغيّر النظام السياسي اللبناني، الجمهوري الديموقراطي البرلماني. إنّ القفز فوق الجمهوريات، هو قفز فوق الوقائع لا يحقق الخلاص ولا يبني الجمهورية المنشودة، ولا يكوّن المدينة الفاضلة، التي لم تكن يوماً في التاريخ، إلا في نظريات الفلاسفة، ولن تكون اليوم أو غداً. كما أنّ التشبه بالجمهورية الخامسة الفرنسية لا يرفعنا الى موقع فرنسا، ولا يجعل دستور جمهوريتها الخامسة ملائماً لواقع لبنان. وما يصحّ في فرنسا لا يصحّ في لبنان، على تعدّد طوائفه، وتوزيع المقاعد النيابية والمناصب على الطوائف والمذاهب، وإنّ تجاوز هذا الأمر يغلّب بعض الطوائف على بعض، ونستمر في حرب أهلية دائمة، كما هي الحال بعد اتفاق الطائف.



إنّ المبادئ الدستورية في كل بلد، تنسجم مع تكوينه العام، إنما المشكلة في التطبيق، إنّ بريطانيا مثلاً لا دستور مكتوباً لها، بل تطبّق الأعراف، والديموقراطية فيها على أفضل ما يكون، وحيث هناك دستور منذ نحو مئة عام، كلبنان، يتلاعب به المسؤولون فيحيلونه العوبة، ولا ينفّذونه، وإذا فعلوا يشوّهونه أو يفسدون تطبيقه، ليس الأمر في الدساتير والقوانين، بل في الذين يطبقونها. وهذا ما قاله العلامة الفرنسي ليون دوغي «ليس للقانون الدستوري أي ضابط سوى حسن نية وأمانة الرجال الذين يطبّقونه، ولا سيما رئيس الجمهورية». وهذا ما نفتقده بشدّة. إنّ المسؤولين هم الخطأة، وليست الدساتير.

إنّ كتاب «الجمهورية الخامسة الحل للمعضلة اللبنانية» ينظر في المعضلة من باب الفلسفة السياسية، محدداً بنيتها «الطائفية السياسية» وإمكان تفكيكها وتحويل مساراتها لتخدم الوطن والإنسان باعتماد مفهوم «التكاؤن»، مع قراءة الأحداث في حركة «التاريخ اللولبي» لتغيّر في «قناعات الأفراد» وسلوكهم في التعبير والتلاقي والتعاون والثبات في إنسانية الإنسان «كرامته»، وذلك للثبات في لبنان - الوطن وبناء «جمهورية خامسة» تهدف الى إخضاع الطائفية السياسية لمصلحة احترام الدين والكائن البشري، وبالتالي تحقيق المساواة والعدالة السياسية والاجتماعية اللتين تؤمّنان مسيرة العيش المشترك نحو التكاؤن الكامل في سبيل وطن لائق بالأجيال اللبنانية.

ما هي نظرية التكاؤن؟

يطرح الأب ميخائيل بالتعاون مع المفكر وهيب كيروز «نظرية لغوية منطلقها اللغة السريانية، بهدف إيجاد مصطلح يعبّر عن المشاركة المصيرية ويرتقي بالجماعة من التعايش الى التعاقل والتواحد، وذلك بالترقّي عن المعنى الأول لفعل كأن...فمصدر التكاؤن هو فعل كأن. هذا الفعل موجود في قاموس اللغة العربية ويعني «اشتدّ»، وبذلك يمكن القول كأَنَ كائنٌ نفسه، أي أدرك ذاته كائناً، ما يسهّل ترجمة مقولة ديكارت بالقول:»أنا أفكر إذاً أنا كائن»، وليس فقط «أنا موجود».

ومن الفعل المجرّد «كأَن» نشتق مزيداً على وزن فاعل، ومطاوعه على وزن تفاعل، فنقول: كاءَن وتكاءَن - وكلاهما للمشاركة - فنقول مثلاً إنّ المعرفة تكائِن الإنسان، أي تزيده ادراكاً لكينونته. ثم من مصدر تكاءَن نحصل على التكاؤن، «أي أن نكون مدركين كينونتنا المشتركة التي بدونها «لا كينونة» لجماعتنا ولا لأية واحدة من جماعاتنا. وفي يقيننا أنّ معنى «التكاؤن» يوفي البعد الاجتماعي السياسي حقّه: أن نكون معاً أو لا نكون، وهذا فعل إدراك إرادي، لا فعل وجود انسيابي».

بهذا المعنى ينعتق وعي اللبناني وعلاقته بالجماعة الطائفية ويعقل أنّ «كرامته» هي في وعيه ذاته الفاعلة الحرّة وذاته المسؤولة والملتزمة في كل لحظة واجباتها وحقوقها المدنية والدينية تجاه كل ذات إنسانية فلا يعود اللبناني وسيلة، بل غاية بذاته ولذاته يرتقي الى مصاف الإنسان الفاعل في مجتمعه ودولته، ويرفض أن يكون مجرّد عدد جزئي في مجموعة الطائفة أكان مستمعاً أو متفرّجاً أو مصفّقاً أو هاتفاً بالحياة المديدة لزعيم طائفته ومصلحته.

أمّا وأنّ جمهورية الطائف الثانية «رسّخت الطائفية وأخطأت قراءة حركة التاريخ، ولّدت نظاماً بثلاثة رؤوس تفرّق بينها على الدوام جدلية المحاصصة المادية». وهذا ما قوّض الدولة وغيّب العام لمصلحة الخاص ودفع المرء للذوبان في مجموعته الطائفية ومصلحة زعيمها، مستظلاً علم المجموعة ولونها استجداء للحصول على منفعة آنية أو حماية ظرفية. وعليه لزوم القراءة المتأنية للمقاربة الفلسفية والنفسية والتاريخية التي تضمّنها الكتاب، أي «ضبط الطائفية لخدمة التكاؤن الإنساني».

هل يمكن إخضاع الطائفية لتخدم جمهورية تتخطى الموروث؟

يمكن باعتماد «نظرية التاريخ اللولبي المتكون من دوائر» تشمل كل حركات التاريخ السابقة وتزودها دينامية تصاعدية خصبة لا تعرف العودة الى الحضيض، وكل دورة ترتكز على الدورة التي سبقتها دون أن يبقى من سابقتها شيء». كما أنّ التحول الى التاريخ اللولبي «يؤثر في المفهوم السياسي العام وفي المجموعات المتفاعلة التي ستتحول من حالة التواجد المشترك الى حالة التكاؤن، إذ ستدرك أنّ أساس العلاقة بينها ليس اعتباطياً وآنياً وتعايشياً، بل علاقة جدلية وفق الحركة التاريخية اللولبية التوحيدية». ويصح استبدال السؤال المركزي: «أي لبنان نريد؟ أي دولة لبنانية نريد ونطمح اليها؟».

وعليه، صار الزامياً الدعوة الى وضع دستور جديد للبنان يرسي «أسس جمهورية ديموقراطية برلمانية، نواتها الشعب فقط». ما الجديد في ذلك؟ فالنظام السياسي اللبناني، هو دون أدنى شك، نظام جمهوري ديموقراطي برلماني! ومن أقدم الأنظمة في العالم.

لكن الأب الأنطوني يريده على دستور الجمهورية الخامسة في فرنسا، ولماذا الخامسة؟ ولماذا أغفل الثالثة والرابعة؟

يقول «أما اعتمادنا تسمية الجمهورية الخامسة فلسببين: أولاً- لأنه عملاً بتاريخ الجمهوريات في فرنسا أتت الجمهورية الخامسة كخلاصة لما سبقها من جمهوريات تعثرت ولم تدم ( يذكر أنّ الجمهورية الثالثة التي يستند دستورنا الى قوانينها استمرت من سنة 1875 الى سنة 1940 حين اجتاحت المانيا فرنسا وسقطت الجمهورية كلها وليس دستورها فقط) ودامت هذه (أي الخامسة) بفضل التوازن والدينامية التي تحلت بهما، ما أوصل فرنسا الى استقرار صعبت زعزعته على رغم سقوط الجنرال ديغول... وتزاوج الرأسمالية مع الشيوعية والاشتراكية.

ثانياً- لأنني واثق من أنّ السياسيين التقليديين يفضلون صعود الجمهوريات درجة درجة حتى يتمكنوا من استيعابها ومنع المس بالحقوق الاقطاعية المحفوظة. بينما الأحداث التي عبر فيها لبنان منذ الطائف وانتهاء بانفجار 4 اب 2020 لا تسمح بأن نجرّب المجرّب...».

لذلك يدعو الى اعتماد مبادئ نظام الجمهورية الخامسة، «واعتبار الشخص البشري انساناً غاية بذاته يتمتع بكامل حقوقه الطبيعية ويلتزم كافة واجباته الاجتماعية... نظام الحكم لا طائفي»، ورأى أن تكون كل الرئاسات خدمة متساوية والطوائف الست متساوية في الحقوق تتشارك الحكم من دون تحديد أي كرسي لأي طائفة شرط ألا يحتل مسؤوليتين شخصان من طائفة واحدة في الوقت نفسه، وذلك دحضاً للطائفية السياسية».

ويدعو الى أن «نعي حركة التاريخ اللولبية ونعيد قراءة تاريخ شعوبنا ودولنا على أساسها»، ويقول «آن الأوان للدخول في جدلية خصبة تحدّد نوعية لولبية التاريخ حيث الآخر هو دوماً مساوٍ للأنا في الجوهر، والآخر والأنا متساويان أمام الله، بداية ونهاية كل جدلية تاريخية».

ويضيف: «آن الأوان لأن نخطو نحو وطن أكمل وشرق أوسط أسلم وأفضل، وأن نضع أُسساً أكثر متانة لذلك التآلف الأخوي المسالم و»العيش المشترك» الذي هو رسالة لبنان التاريخية، دافعين به نحو التكاؤن الذي نريده تجربة انسانية ناجحة نقدّمها الى العالم. «وليعِ كل لبناني أنه إنسان، وأنه تعِسٌ الإنسان الذي ليس له في قلبه وطن يفتخر به»،(من أقوال المونسنيور جان - مارون في إحدى عظاته في كنيسة ما جرجس المارونية في بيروت) إنّ اللبناني يعيش في تعاسته هو، ويعيش تعاسة الآخرين في محيطه، والى آخر قرية في لبنان، حتى إذا هاجر يحمل معه تعاسة القلق على أهله الذين بقوا هنا. فالشعب اللبناني يحمل على منكبيه مئتي سنة من الخوف والجوع والاضطرابات والقلق وعدم الثقة المتبادلة، فكيف يخرج من تعاسته؟ ومتى؟ وبأي طريقة؟



الجمهورية الخامسة



سعى الفكر السياسي في العالم الى سعادة الإنسان، لكنه كلما تقدّم في الزمن اتسعت خطواته نحو التعاسة والفقر.

لم يستطع الفارابي أن يعيش في مدينته الفاضلة التي تصورها على أفضل حال، ثم أتت الديانات فرفعتها الى السماء واعدة أتباعها بها، في السماء وليس على الأرض، لأنّ لا مكان لها على الأرض. ووعدت الماركسية بمجتمع مثالي يعيش فيه الإنسان، كأنه في جنة على الأرض، فكان الاتحاد السوفياتي الذي أخفق في تجسيد الفكرة، وسقط في عامه السبعين، ولم يكمل المئة، وسقطت معه كل أحلام الطبقة العاملة والفلاحين والفقراء. هذان مثالان وغيرهما كثير، وهكذا سقطت كل الوعود الفلسفية والدينية والمادية الملحدة عند أقدام البشر الذين لم يستطع أي نظام فكري سياسي أو اقتصادي إرضاءهم، ولم يتمكن من حكمهم، وبقوا يعيشون في عالم المثل.

ماذا يريد الأب الأنطوني؟ وأين المشكلة؟ وما هو الحل؟

يريد «أمة لبنانية واحدة موحّدة يتكامل فيها الجميع «متكائنين» في شكل محوري في سياق حركة لولبية للتاريخ حول لبّ هذا الكيان الذي هو كرامة الشعب المبنية على حقّ الإنسان في الحياة، وحرية الاعتقاد، وحرية التعبير والمشاركة العادلة في تقرير المسار والمصير المشتركين مع حفظ أولوية الصالح العام».

في المحصلة، إذا وعى اللبناني كرامته أحسن اختياره، وإذا أساء اختياره وقع في محظور مقولة «كما تكونون يولّى عليكم»، وإذا كانت هذه حقيقة اللبنانيين فما ذنب الدستور؟ ليست المشكلة في الدستور، إنّ الدساتير توضع لتعبّر عن الفكر السياسي لمجموعاته السياسية والاجتماعية، وتحكم علاقاتها وتقوننها في السعي الى الأفضل، بحسب قول المسيح «إنما جعل السبت لأجل الإنسان، لا الإنسان من أجل السبت»، فليقلع اللبنانيون عن اعتماد مقولة «إنّ سوء الظن من حسن الفطن»، وليعتمدوا الثقة بعضهم ببعض، بدلاً من المناكفات والمكائد والنكايات والكيد السياسي والتشنج الطائفي والتوتر المذهبي... وليذهبوا الى كلمة سواء بينهم، فتصلح أمورهم ويستوي دستورهم. طبعاً بعد أن تحل الميليشيات الباقية بذريعة أو بأخرى، وتطوي المذاهب ريشها بعد أن نفشته، حين نفخ فيها الفلسطيني والسوري والإسرائيلي والإيراني، ولكل دوره في تقويض أركان الوطن.

يا «أبونا» المشكلة في الشعب وطوائفه وانتماءاته الخارجية وليست في نصوص الدستور. والحل لن يكون في الجمهورية الخامسة أو السادسة أو العاشرة، بل في العودة الى الأسس التي تبنى عليها الأوطان في العالم، وليس فيها مكوّنات أو مجموعات ترتبط بالخارج وتنتظر منه الأوامر.

MISS 3