شربل داغر

"اللايكات" واللياقات

9 كانون الثاني 2024

02 : 00

عندما أتصفحُ جدران «الفيس بوك»، لا أنقطع عن التفكير، وعن تذكرِ مشهدٍ بعيد في قريتي، عندما كان كبار في السن يقتعدون أمام جدار، أمام دكان القرية الوحيد، ليلعبوا بالورق، أو بطاولة الزهر.

ما كان يمرّ أحدٌ بهم، إلا ويُلقي التحية عليهم، وهم يبادلونه إياها، إن لم يُطِل أحدُ الجالسِين الكلامَ مع أحد العابرِين...

كنتُ، مع رفقة لي، نجلس فوق درج باطوني موصول بالجدار عينه، ونتأمل المشهد، ساخرِين ممّا يفعله هؤلاء من كلام، وتحيات، تنمّ عن تكرار بليد...

كان هذا قبل أن أشارك، في سنوات تالية، في إلقاء بعض عبارات اللياقة هذه...

هذا ما استغربتُه بعد أيام وأسابيع على انضمامي الى سلسلة الذين يُلقون ظهورهم على الجدران الإلكترونية، ويواجهوننا بوجوههم. أتراني أعود إلى درج المراهقة بأدوات أخرى؟

أترانا لا نقوى على الاجتماع حول أطرافِ صفحةٍ مترامية، إلا ويكون الشعورُ الجَمْعي رابطَنا ؟!

لهذا ترددتُ سنوات وسنوات قبل الالتحاق بالجدار الإلكتروني. وما تكشفَ لي أصعب مما كنت أحسب، ولا سيما في الأسابيع الأخيرة.

شروط وقوفنا أمام الجدار تتغير، من دون إدراكِ مراميها بالضرورة. هذا ما أتحقق منه في غير أمر: منها «الإرشادات» المقترحة لتحسين مردود التفاعل مع صفحتي، منها طرحُ إعلانات مناسبة لشد انتباه المزيد وغيرها. وما بات يُعرض علي كثيرٌ من الصور العارية، التي باتت تستقبلني أكثر وأسرع من تدوينات صاحباتي وأصحابي...

شعور الألفة يتبدد أكثر فأكثر، وأصبحتُ أشبه بزائر... بصاص، فيما كنت أروده، في الأسابيع الأولى قبل سنوات قليلة، بعينَي الفضول والمتعة والفائدة.

مع ذلك لم يتغير «الفيس بوك» كثيراً، لكنني أنا الذي تغيرت، أو لم أعد أجد في عروضه الكثيرة ما يجذبني إليه.

يبدو أنني لا زلت أنتمي إلى ثقافة... تتناقص. فما أطلبُه في «الفيس بوك» لا يناسب أصحاب البرامج فيه، على ما يبدو لي. و هو ما عايشتُه قبل أسابيع مع اعتراضات كثيرِين على حجب تدويناتهم، أو على حجمها القليل، لكنني لم أتبع نصائحهم الخوارزمية بالمقابل.

«الفيس بوك» سوقٌ، في واقع الأمر، وليس «هايد بارك»، أو سوق عكاظ، أو غيرها. سوقٌ اجتماعي، يجمع هؤلاء كلهم وغيرهم، على أنه ينحاز وينمي توجهات أخرى، ما يفيد التواصل الاجتماعي في المقام الأول.

ما أنساه هو أن هذا السوق مجاني، وليس لي أن أشترط الكثير فيه. يمكن أن أنتقل إليه بخفة، أو أصرف له دقائق معدودة، أو أن أطيل التوقف والتعارف فيه.

لكنني أتيقن أكثر من أن له فوائد جمة لمستُها في حياتي، في كتبي، في علاقاتي. فما يوفرُه، ووفرَه لي، في السنوات الأخيرة، كثير. لا أريد أن أحصيه في الآلاف التي تتابعني وأتابعها، في تلك اللقاءات الخاطفة، وأحياناً المديدة.

السوق لا يختصر المجتمع المتوسع، ولا الحياة الحميمة، إلا أن فيه ما يجعلنا موصولين في وحدتنا، ونتعارف ونتحاور ما أمكننا، وما طاب لنا.

MISS 3