جيمي الزاخم

إشْتَرَت الحرمانَ في طفولتها وباعت الأجبانَ في شيخوختها

بديعة مصابني... نجمةٌٌ أضاءَتْ ليلَ العَرَب

8 شباط 2024

02 : 00

بديعة مصابني

منذ خمسين سنة، في تمّوز 1974، تعكّزت بديعة مصابني على عصاها الثمانينيّة وسارَت نحو قبرها. يوبيلٌ ذهبيّ عن غروبِ وشروق شمس اسمٍ أُودعَ في مصرف الزّمن مع رصيد أثّر ورسّخَ امرأةً جبّارة، سبّاقة في زمنها، رائدةً في فنّها، ناريّة بقُوتها ومُحرقةً بقصّتها. هذه القصّة سردتْها قرابة عام 1956 ونُشرت بنسخةٍ يتيمة آنذاك. اليوم، قرّرت «دار نلسن» بشخص مديرها الكاتب سليمان بختي وبجهود الدكتور باسم فليفل، انتشالَ المذكّرات من رَمادها وتأجيجَ النّار حول بديعة وحياتِها الملتهِبَة بتقيُّحات وتساؤلات لم تُطفأْ شمعتُها. ملكةُ المسرح وعميدة الرّقص الشرقيّ التي أشعلت الليلَ العربيّ، أضاءت شموعها من دموع بدأت مع طفولة قاسية مُعتمة. وما انتهت في شتورة البقاعيّة حيث أراحت مجدها الفنيّ وقيّضته وقايضته، لعلّها تشتري الطمأنينة والأمان مع مزرعة لتربية الدواجن ومحالّ لبيع الألبان والأجبان.



فليفل: بالغَت مصابني في أكثر من موضع



د. باسم فليفل ليس مؤرّخاً فنياً. هو يأتي من عالم الأكاديميا، والتخصّص بالتاريخ الحديث والمعاصر وتحديداً العثمانيّ. اقترح عليه الناشر سليمان بختي أن يحقّق ويدقّق ويعلّق بهوامش لا تنسف نسخةً أصليّة دوّنتْها نازك باسيلا. في حديثه لـِ»نداء الوطن» يقول فليفل إنّه اعتمد على نسخة متوافرة في مكتبة الجامعة الأميركية. هي من النسخ النادرة المتبقّية. هو البعيد عن عالم الفنّ، يصنّف السيرَ الذاتية «مورداً مهمّاً استثارته لكشف كواليس الشخصيات وهويّة الحقبات». فالمذكّرات غالباً ما تمزّق غشاءَ ستارة البريق والتصفيق. هكذا اندفع فليفل مزوَّداً برغبته ومُدركاً أهمّية بديعة مصابني التي عاصرت الحقبةَ العثمانية وعايشت مراحلَ متعدّدة سياسياً، فنّيّاً، اجتماعياً واقتصادياً. «ففي بدايات حياتها، كان الناس يتنقّلون على الدّواب. وحينما تُوفّيت كانت قد مضت خمس سنوات على هبوط البشر على سطح القمر».

«الفَقرُ صديقُنا الوحيد»

في حديثه معنا، يؤكّد فليفل أنّه - وكما القارئ- تعاطف مع بديعة «الطفلة البريئة المُجرَّدة من القوة والإرادة». هي دمشقيّة الأم والمولد، لبنانيّةُ الوالد. ترعرعت في بيتٍ «صورة مصغّرة عن الجحيم». طفولة محرومة مع «فقر كان هو صديقنا الوحيد». اغتُصبت في السابعة من عمرها. التهمتْها وعائلتَها ألسنةُ الناس بعد الاعتداء عليها. تهامسوا أنّها «جميلة لكنّها مشوَّهة»! هذه الألسنة أضحت حبالاً تسلّقَتْها بديعة لتتقدَّمَ وتنتقم. تُكلّل حياتَها بحثاً عن الاستقرار و»انتقاماً ممّن احتقرني وذلّني». هي تنتقم من قدرٍ ظلمها، وأبٍ خانها مع الموت المبكّر، وأشقّاء بألزهايمر عاطفيّ، ومن أبناء عمٍّ أرادوها خادمةً في قصرهم البيروتيّ. تحوّلت إلى جثّة متنقِّلة. تقول إنّ «البحبوحة لم تحملْني على التنكّر لأيّام الشقاء والتشرّد». واجهت مصيرَها وحيدةً مع أمّ قاسيةٍ صعبةِ المِراس، تحجب حنانَها ومالَها. تُجبر بديعتَها أن تسير على أقدامها من دمشق إلى البقاع، فبيروت وصولاً إلى منزل الابنة نظلة في شيخان الجبيليّة. «شقيقتي نظلة كانت كلّ شيء في حياتي». أمّا الوالدة جميلة الشاغوري بطلة الرّبع الأول من الصفحات فهي «كاراكتير» نموذجّي ممتاز لشخصيّة سينمائية. أمّا على شاشة الواقع، فتكتب الوجع والحسرة وتشنق فرصاً للطفلة التي هربت من أمّها وانطلقت. تحرّرت منها. لكنها عادت لتحنّ عليها في آخر أيّامها. يُبقي فليفل الباب مفتوحاً أمام احتمال أنّ «مصابني ربّما عدّلت وأضافت بعضَ أحداث على مرحلةٍ» تبخّرت في بركان الزمن مع أشخاص وشهودٍ لم يبقَ منهم إلّا اسمهم.

سرَدَتْ، بالَغَتْ؟ وحَجَبَتْ؟التعاطف الذي رافقَ فليفل مع بديعة الطفلة، تراجع أمام السّيدة بديعة الشّهيرة. «دخلت مرحلةَ النضوج. باتت مسؤولةً عن أفعالها، قراراتِها وعواقبها». في هوامشه، أبرزَ بالبيّنة والمنطق التناقضات في أقوالها. كما استند الى مراجعَ تُحيط بالوضع العامّ آنذاك. فشرّح أحداثاً تاريخيّة جاورت بديعة. فسّر مصطلحات لغويّة. عرّف بمناطق جغرافية سكنتْها كدمشق، حلب، الاسكندرية، القاهرة، أميركا اللاتينية، بيروت، طرابلس وفلسطين التي شهدت نكبتَها بعيون ركّاب سفينة رافقوها في رحلتها. يجزم فليفل أنّ مهمّته هي التأريخ. لا يريد التّحكيمَ والتدنيس أو التقديس. قرأ بديعة وسيرتَها بعيون ذاك الزمن مع فنونه وظواهره. لكنّه يوضح أنها بالغت في أكثر من موضع. قارن بين ما روَتْه وما ورد في مذكّرات الريحاني. تشاركا خشبةَ المسرح، المواهب، السهرات، الشّجارات والحياةَ الزّوجية. نعتَتْه «بالكسول واللّامبالي». حسب فليفل، «إنّ التوصيف ظالم: هو شغوف بمهنته، ينتقي ويستمزج ويتمهّل». لم تنكرِ العميدةُ فضلَه عليها في مذكّراتها كما في مقابلتها التلفزيونية مع ليلى رستم عام 1966. يذكر فليفل أيضاً مبالغةً أخرى فاقعة: «صوّرت خروجَها من مصر بطريقة سينمائية». تروي أنّ الديون تراكمت ومصلحةَ الضرائب حاصرتْها بمبالغ طائلة. «لكن لم يُكشف حتى الآن عن أيّ دليل يوضح كيف ولماذا هربت من مصر ولجأت إلى لبنان». في المقابل، لا تُستبعدُ فرضيةُ المنافسة الفنيّة أو سراديب علاقات مع الأسرة المالكة أو أصحاب النفوذ في مصر. فضُغط عليها بالضرائب وقيّدوها. فحوصِرَت وخرجَت. ربّما تعمّدت إخفاء هذه القطبة المخفيّة مع قطب أخرى، مثلما حجبت علاقاتها الغراميّة وقنّعتها باسم الصداقات البريئة. رغم أنّها تعود وتعمّم استنتاجَها أن «الرجل لا يبذل شيئاً إلّا كي يستردّه أضعافاً مُضاعفة». وهذا ما يُقرأ بين سطور الواقع والمذكّرات.



النسخة الأصليّة دُوّنت | ١٩٥٦

على الغلاف: صورتها عام ١٩١٥



في هذه المذكرات، بديعة لم تغُصْ كفايةً في هويّتها وبصمتها الفنية وتقنياتها على مسرح الجسد والنغم. يعتبر فليفل أن أهميّتَها سطعت بعد كتابتها المذكّرات: لأنّ المواهب التي تبنّتْها صالتُها، تحوّلت إلى نجوم سينمائية انتشرت في العالم العربي ونشرت اللّغة المصرية. وفي سياق منفصل، يُؤخذ عليها أنّها أبعدت عن نفسها ثوبَ الجلّاد. ارتدت موقعَ الضّحية الدائمة «مع أن بعض الأخبار تدلّ على سلطتها وضرورة طاعتها». هي كتبت ذاكرتها وغربلَت ذكرياتها. وهذه حال الجميع. يُبرّئون. يُبرّرون. ورغم ذلك، إنّ من يقرأ النسخة الأصلية البديعيّة والنسخة الحالية النلسنيّة، لا تنتابه قشعريرة زلازلَ تهدم القلاع وتتاجر بالأنقاض. لكنّها تثير الأسئلة. فالهدف كان التعليق مع توضيح دون تحطيم ذكريات استضافها فليفل مع لغتها ورحيقها. لغة يُحلّل الباحث أنّها «كُتبت بعد نقلها عن لسان شخص يتقن اللّغة العربيةَ لكنّه لم يتشرَّبْها في صغره». وهذه حال بديعة التي درست في مدرسة داخلية أرجنتينية. وبين الأرجنتين وقضاء البترون الذي دُفنت في ترابه بديعة مصابني، تخرج جنّية الحكاية من فوانيس روحِ فنّانةٍ عاشت وصنعت أحداثاً صاخبة ملوّنة. لكنّ شعور الوحدة دوماً ما تلصّص عليها وتمكّن منها، رغم الرّذاذ البشريّ والفنّي المحيط بامرأة من حديد صنعت نهضةً من الخشبة وأبحرت عبرَها في بحر الزّمن.

MISS 3