غزل قباني

"أرض الوهم" للمخرج اللبناني - الفرنسي كارلوس شاهين تكاملٌ إبداعي يستحقّ الثناء

21 شباط 2024

02 : 02

مشهد من الفيلم

قلّما تتكامل عناصر فيلم لبناني، من حبكة وسيناريو واخراج وتمثيل، كما هي الحال مع رائعة الممثل والمخرج اللبناني - الفرنسي كارلوس شاهين «أرض الوهم». والفيلم الذي بدأ عرضه في الصالات منذ منتصف الشهر الحالي يلقى ترحيباً حاراً من الجماهير والنقاد على السواء. لا عجب حول نجاح الفيلم إطلاقاً خصوصاً أن المرء يقطع الشك باليقين عند مشاهدته إياه فيخرج من الصالة مقدّراً للمجهود المبذول ولبراعة الصنع والأداء.


المخرج كارلوس شاهين



يجمع الفيلم في 83 دقيقة بوتقةً من الممثلين المتألقين على غرار ماريلين نعمان (ليلى)، أنطوان مرعب حرب (شارل)، نتالي باي (ايلين)، بيار روشفور (رينيه)، طلال الجردي (بطرس)، أحمد قعبور (شيخ داوود)، كريستني شويري (أوجيني)، جوي حلاق (إيفا) وروبس رمضان (ندى).

والفيلم حقيقيٌ لأقصى درجة، فائق الجمال إخراجياً، مع سيناريو محكم وأداء مقنع بعيد عن التكلف والتصنّع. يسافر بك الفيلم الى أحداث صيف 1958: ثلاث شقيقات من عليّة القوم في المجتمع المسيحي يمضين اجازتهن في الجبل. أخبار الثورة المندلعة في بيروت تعكّر صفو القرية التي يضطر أهلها الى التناوب على الحراسة خوفاً من تسلّل أبناء الشرّ للعبث بأمنها.

تتمحور الحبكة حول الأخت البكر ليلى، الأم والزوجة المثالية، الواقعة تحت سطوة مجتمع بطريركي لا يترك لها هامشاً من حرية القرار، فتستيقظ على واقع مرير: لم تقرر في حياتها شيئاً. فقد قرر عنها الوالد أولاً كلّ شيء ثم الزوج، وها هو طفلها ينصّب- منذ أولى لحظات اشتداد عوده- نفسه ولياً على أمرها. وهكذا تستحيل حياتها الزوجية والعائلية بأسرها روتيناً مضجراً، وعلاقة فاترة مع زوجٍ لا تربطها به إلا الواجبات التي يفرضها المجتمع الذكوري المتحكم بأدنى التفاصيل، من مرحلة المراهقة، الى بلوغ سنّ التعلّم، الى الزواج والأمومة، وما الى ذلك من تفاصيل تجعل المرأة تشعر بأنّها أسيرة مجتمعٍ لا يسمح لها بأيّ وجود خارج سطوته فتقع فريسة الاكتئاب.

بنات العائلة هربن من المدينة ولجأن إلى القرية المتوارية بمكانٍ مرتفع، معزول مع أصداء الحرب المتردّدة من بعيد. في أوقات مضطربة كهذه، تضعف حواجز السلوكيات النمطيّة ويجرؤ الناس على فعل ما لا يفعلونه عادةً في الأوقات الطبيعية.

عنوان وأحداث

ولدت قصة الفيلم مع كارلوس شاهين- العائد الى لبنان الذي غادره في 1975 بسبب الحرب- محاولاً اكتشاف مسقط رأسه. يدرك شاهين، الممثل المسرحي والمخرج، أنّ عجزه عن ايجاد موقعٍ حقيقي له في فرنسا سببه احساسه بالمنفى الذي يغلي بداخله. احساسٌ فشل في وضع الاصبع عليه قبل ذلك. وحدها السينما اتاحت له تلك الفرصة فقدّم روايته المتحورة حول الانتماء الى منطقةٍ خارج موقع السكن.

يعنون شاهين فيلمه بـ»ليلة كأس الماء» بالفرنسية. يستمدّ العبارة من ذكريات طفولته حين كان ينادي والدته في غمرة الليل طالباً منها كأساً من الماء. والفيلم استعادةٌ لعالم الوسط المسيحي الطقسيّ والمجتمع الإقطاعي اللبناني وما يتفرّع عنه من معالجات كمكانة المرأة في النسيج العائلي والطريقة التي تدار فيها الأمور بشكل يحمي النظام الذكوري من أي تغيير. ويعلن جرس القرية عملية طقسية يومية تقرّر حياة الناس وانتظامها.

يقارب المخرج نماذج نسائية مختلفة، كوالدة البطلة، وشقيقاتها. يمكن تصنيف الفيلم بالنسويّ بامتياز. إنه مرآة لعالمٍ مليء بالقيود تتقاطع فيه طرق كثيرة متشعبة تحول دون تحقيق المرأة لذاتها. وهكذا تصرخ الابنة الصغرى في وجه والدتها في أحد المشاهد مستنكرةً عدم السماح لها بإدارة دفة حياتها: «لماذا علّمتنا إذاً؟ ألتقومي ببيعنا الواحدة تلو الأخرى»، وتصيح الأخت الثانية بليلى: «لا نريد أن نكون خاضعين مثلك، لا نريد حياةً خانعةً كحياتك!». تصطدم النسوية بقوانين المجتمع. والفيلم- وإن كان نسوياً- لا يغفل الرجال فدورهم كبير، كونهم ركناً أساسياً من بنية المجتمعات الشرقية، وهم بدورهم أيضاً ضحية من ضحايا النظام البطريركي.





ويحيل العنوانان الفرنسي والعربي إلى ثورةٍ داخلية تحدث لأبطال الفيلم. يصف شاهين وتريستان بونوا الذي ساعده على كتابة السيناريو الحبّ المجنون الذي يربط طفلاً بأمّه قبل تحرّرها المفاجئ، بعد لقائها مصوراً أجنبياً قصد القرية مع أمه لقضاء بعض الوقت فيها. يوقظ وجود الأجنبي مشاعر الأنوثة الراقدة لدى ليلى التي تعاني مللاً كبيراً في حياتها الزوجية فتتحيّن الفرصة للاختلاء بالأجنبي لممارسة وجودها. يشعر الطفل الصغير بأنّ حياته الآمنة في حضن أمه الهانئ ستتغير. يرفض ذات يوم متمرداً شرب الكأس منها محاولةً منه لدرء القدر وكأنه يوجه نداء يائساً إلى أمّه بألا تتركه.

تسير أحداث الفيلم بإيقاعٍ بطيء مقصود. صوت الطبيعة حاضرٌ في كلّ مكان. يشعر المشاهد بأنّ ثمة بركاناً يغلي وراء هذه الرقّة اللامتناهية. أصوات الفيلم تمدّ المشاهد بذلك الإحساس، بالخطر المحدق على الدوام. وهناك كذلك صوت الريح القويّة، والليل، وكل ما في الخارج بات مخيفاً، كما لو كأنّ الأرواح انفلتت من عقالها لتبث الرعب لدى الجميع. وتبدو مشاهد الوادي المقدّس، حيث كان المخرج يمضي إجازة الصيف في طفولته في هذا السياق كذلك. كان المكان يجذب الطفل ويخيفه في آن. يبدو كشقّ ضخم في بطن الأرض... شقّ بلا مخرج. يركز المخرج ومدير التصوير توماس باتايّ على ثلاثة عناصر: الأمّ، الطفل والوادي. يُصوَّر الوادي كما لو أنّه، ليس مسحوراً بمعنى الكلمة، بل مسكوناً بأرواح تتحكّم بالناس، كما في التراجيديا الاغريقية، حيث تؤثر الآلهة بلا محالة على الشخصيات المحيطة بها.

حــــــداثــــــة وتــــــقــــــالــــــيــــــد


في الفيلم أيضاً الإشكالية الأبديّة المتعلّقة بالحداثة في مواجهة التقاليد. مع استقلال لبنان في العام 1943، كان لا بدّ من تفادي تحوّل مسيحيّي لبنان الى مواطنين من درجة ثانية بمنطقة ذي أغلبية مسلمة. وكان واضحاً كذلك انزعاج المسلمين من نظرة المسيحيين إليهم بفوقيةٍ مزعجة. كان ينبغي أن يحظى الجميع بمكانته الخاصة. وكان ثمة اتفاق ضمني على إيجاد التوازن بين مختلف الطوائف وبناء دولة حديثة من لبنانيين سافروا كثيراً، وتعلّموا، وحلموا بوطن عصري. يصطدم هذا التعطّش للحداثة بجدران النزعة الدينية المحافظة في المنطقة التي تضمّ مروحة متنوّعة من الطوائف التي تعايشت في وئام رغم كل شيء. تتضافر الجهود كلّها لتوتير الوضع بحيث لا يتحقّق الحلم، ويخاف الشعب من الحداثة، متشبّثاً بالتقاليد. وهكذا يستحيل لبنان الحلم «أرض الوهم».

يقول شاهين، الممثل المسرحي بالفطرة والمخرج المغترب، إنه شعر بالدهشة حين شاهد فيلمه الطويل الأول عابراً الخيال الى الواقع. مرّ- هو الذي وضع ثلاثية من الأفلام القصيرة عن أبيه وأمه وعن الطفل الذي غادر الوطن- بلحظاتٍ من الشكّ أثناء عملية منتجة الفيلم الطويل ليصل في نهاية المطاف الى شعورٍ بالرضى والاكتفاء والسعادة.

نحن أيضاً نقف أمام فيلمه مبهورين وقد اعترتنا دهشةٌ جميلة لدى خروجنا من الصالة بعد ساعة ونصف تقريباً. دهشةٌ بدّدت شكوكنا المسبقة والظالمة بكمال أيّ فيلمٍ لبناني لكثرة ما اعتدنا رؤية أفلام لبنانية باهتة تصل الى الشاشة العملاقة بفعل قدرة المنتج المادية وليس استحقاقاً يليق بموهبة فذّة. نحن أيضاً نشعر بالاكتفاء والسعادة لهذا الفيلم الذي يستحق من دون أدنى شكّ المشاهدة وأرفع الجوائز.


ليلى (الى اليمين) مع شقيقاتها وطفلها




مع بيار روشفور





ملصق الفيلم

MISS 3