حسان الزين

من ثنائية إده - الخوري إلى انقلاب "القومي السوري" و"الثورة البيضاء" وحرب 1958

المعارضات في لبنان: زعامات وصراعات وتفكّك جبهات (١)

9 آذار 2024

02 : 00

علم لبنان الاستقلالي

لكلّ معارضة نشأت في تاريخ لبنان خصوصيّتها. كلٌّ منها كانت ابنة زمنها بمعطياته المحلية وظروفه الخارجية. وإذ تلتقي كلها في كونها سعت إلى إزاحة مَن في الحكم، اختلفت في أساليبها ومكوناتها وعلاقاتها الخارجية. كذلك اختلفت في منطلقات معارضتها ومداها. فقائمة المعارضات تضم ما هي سلمية ومعارضة للحكم وسياساته وأحوال الإدارة والاقتصاد؛ ومنها ما هي مسلحة ومعارضة لتضخّم الرئيس وصلاحيّاته وسياساته الخارجية واختلال التوازن الطائفي. وفي حين تكرر وجود معارضات انتخابية وبرلمانية، في ظل استخدام السلطة قانون الانتخاب لمصلحتها، هناك أيضاً معارضة انقلابية وأخرى ذهبت إلى تغيير «النظام الطائفي» بالعنف. وفي حين هناك معارضة من داخل الحكم رفعت شعار الاستقلال والحرية والسيادة ضد الوصاية السورية، هناك حالات وقوى معارضة انتفضت ضد النظام وما أسمته «المنظومة» السياسية والاقتصادية التي نهبت البلاد ورهنتها للخارج ودمرت الدولة والاقتصاد. هنا، الحلقة الأولى من جولة على تلك المعارضات ومآلاتها.



في مرحلة الانتداب، وتحديداً بعد أن قرر المفوض السامي تعليق العمل بالدستور عام 1932، بدأت تتشكل ثنائية حزبية جديدة في الحياة السياسية: الكتلة الدستورية بزعامة بشارة الخوري تقابلها الكتلة الوطنية بزعامة إميل إده. وكان ذلك، وفق فريد الخازن، بعدما «برزت نخب سياسية جديدة، خصوصاً داخل الطوائف المسيحية، وتحديداً داخل الطائفة المارونية». وفيما «جاءت القيادات من مواقع اجتماعية وسياسية وفكرية متنوعة»، أسهم، بحسب الخازن، «عاملان أساسيان في إبراز قيادات سياسية جديدة: السياسة الفرنسية من خلال تعاملها مع قيادات مقربة، وانتقال مركز القرار السياسي من الجبل إلى العاصمة بيروت». وإذ لم تشهد الطائفتان الدرزية والشيعية «بروز نخب جديدة»، برزت في «الطائفة السنية بعض القيادات الجديدة، إلا أن تأثيرها كان محدوداً، ذلك أن القيادات النافذة كرياض الصلح وسليم سلام وعبد الحميد كرامي كانت معارضة للكيان وداعية إلى الانضمام إلى سوريا».

وفيما ينتبه فواز طرابلسي إلى أن المفوضين السامين المتعاقبين استغلوا المنافسة بين إده والخوري، يحدد مجموعة من المواقف التي فرّقت الكتلتين، ومنها: «كان إده يرى لبنان بالدرجة الأولى بما هو وطن قومي مسيحي، مؤكداً على هويّته المتوسطيّة، تمييزاً له إثنيّاً عن سائر سوريا والعرب، ويتطلع إلى المسلمين بما هم تهديد للوطن القومي المسيحي ما يستوجب تحجيم لبنان الكبير جغرافياً وسكانياً درءاً لخطرهم... وفي المقابل، رأى الخوري إلى لبنان على أنه بلد مستقل ينبني بالتعاون مع سكانه المسلمين ولا بد له من علاقات وثيقة مع سوريا وسائر الأقطار العربية. أما حقوق المسيحيين، فبدلاً من تأمينها بواسطة القوات الأجنبية، يتضمّنها الدستور الذي يكفل الأسبقية السياسية للمسيحيين من خلال الصلاحيات الواسعة الممنوحة لمنصب رئيس الجمهورية».

إتفاق الخوري والصلح

يعتقد طرابلسي أنه «مثلما أنضجت الحرب العالمية الأولى الشروط التي آلت إلى نشوء لبنان الكبير في ظل الانتداب الفرنسي، نضجت شروط استقلال لبنان عن فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية في إطار التنافس البريطاني - الفرنسي على مصائر شعوب المشرق العربي».

وبعدما «هاجمت القوات البريطانية والفرنسية سوريا ولبنان وطردت الإدارة الموالية لحكومة فيشي» (المتحالفة مع الاحتلال الألماني لفرنسا)، وفي ظل توجس الجنرال ديغول من «نية بريطانيا طرد فرنسا من المنطقة»، شكلت القاهرة، وفق طرابلسي، «مركز التفاوض على استقلال لبنان». وهناك، انعقد «التحالف بين بشارة الخوري ورياض الصلح وصيغ الميثاق الوطني الشهير، الذي قايض الحماية الفرنسية للمسيحيين بالأسبقية المسيحية السياسية التي يكفلها الدستور على أن يُسقط المسيحيون المطالبة بالحماية الأجنبية، فيما يتخلّى المسلمون عن فكرة الوحدة مع سوريا في مقابل شراكتهم في تسيير شؤون البلاد».

إثر ذلك، وفي ظل منافسة الخوري وإده على رئاسة الجمهورية، «أدت نتائج الانتخابات النيابية في أيلول 1943 إلى انتصار واضح للدستوريين. وانتخب الخوري رئيساً للجمهورية يوم 21 منه وسارع إلى تكليف رياض الصلح بتأليف الوزارة الاستقلالية الأولى... وفي 8 تشرين الثاني، التأم مجلس النواب وأقر عدداً من التعديلات ألغيت بموجبها المادة التي تقول إن سلطات الانتداب الفرنسي هي المصدر الأوحد للسلطة السياسية وللتشريع، وأُعيد الاعتبار للغة العربية بما هي اللغة الرسمية للبلاد واعتمد تصميم جديد للعلم اللبناني. هكذا فُرض استقلال لبنان على فرنسا بما هو أمر واقع». وفيما «لم يحقق لبنان استقلاله من دون صدامات وعنف»، كان «الاستقلال إلى حد كبير نتاج تفاهم بين بريطانيا ومصر. لعبت الأولى الدور الحاسم في إنهاء الانتداب واختيار الثنائي الحاكم. ولدى تفسيره لماذا قبلت الأوليغارشية ذات الهوى الفرنسي بالاستقلال، أسرّ ميشال شيحا لصديقه شارل حلو بأن لبنان لم يكن يستطيع البقاء متجراً فرنسياً في منطقة يسيطر عليها الإنكليز. أما مصر، وهي الدولة العربية الأولى التي اعترفت باستقلال لبنان، فكانت الضمانة العربية لذاك الاستقلال، خصوصاً تجاه سوريا».



تستخدم السلطة دائماً قانون الانتخاب لمصلحتها


البرلمان الأمثل

من أجمل حوارات المشهد الثقافي السياسي في لبنان عشية الاستقلال ما دار بين الصحافي رشدي معلوف والأديب توفيق يوسف عواد. وما زال هذا الحوار، الذي جُمع في كتيب "البرلمان الأمثل" وقدم له فؤاد حبيش، يتكرّر حتى الساعة.

فمعلوف ترشح في انتخابات 1943 سعياً منه إلى "البرلمان الأمثل". وقد دشّن أسلوباً جديداً في خوض المعارك الانتخابية، يقوم على إعلان صفات المرشّح، وبالتالي "ممثل الأمة"، ومن خلال ذلك يتضح برنامجه الانتخابي. وإذ انطلق معلوف من كونه شابّاً داعياً فئته إلى المشاركة في الشأن العام لمصلحة الشعب والدولة، عبّر عن أمله بالفرد اللبناني.

في مقابل تفاؤل معلوف، عبّر عوّاد عن يأس لا من الساسة فحسب بل من "أهل البلاد". وإذ انحاز عواد إلى فكرة الأحزاب وضرورتها في إحداث تغيير وحفظ "الآدمية"، تطلع إلى بناء قوى ليست عصرية فحسب، بل قادرة على مواجهة الممسكين بالحكم والمجلس والمجتمع أيضاً. وهؤلاء يعرفون من أين تؤكل الكتف، ودهاة مؤامرات، ولا يتركون خيِّراً يَفعل بينهم. وبعد أن يقول إن "العمارة الضخمة متداعية"، يدعو إلى "حزب لبنان". وهذا "مستوحى من تاريخ البلاد ومصلحتها... فلبنان لجميع أهله، لا لطائفة دون طائفة، وكل حزب يقوم على أساس الطائفية... لا يستهدف مصلحة البلاد بل مصلحة فئة من أبنائها دون فئة وضد فئة".


نهاية الثنائية وترنّح الإتفاق

وإذ وجّه «الميثاق الوطني» والاستقلال وتحالف الخوري - الصلح (وهو حركة استقلالية أكثر منه معارضة) ضربة قاسية إلى إده وكتلته، لم تدم الحركة السياسية والشعبية التي أسهمت في تحقيق الاستقلال، وضمّت تنوّعاً طائفياً وسياسياً، من كميل شمعون وصائب سلام وعبد الحميد كرامي إلى الحزب الشيوعي. والمؤتمر الوطني الذي نظّمته لم يستمر ويضع مقرّراته قيدَ التنفيذ. وفيما يرصد كريم مروة «عودة زعامات الاستقلال إلى التقوقع داخل انتماءاتها الجزئية»، يجد كريم بقردوني أن «القيادات انتقلت من الحياء تجاه الطائفية إلى الوقاحة في استخدامها. وتكرّست القناعة بأن الواحد منهم يقوى بطائفته وليس بوطنه. وهنا أغلقت الدائرة: فلكي تصبح زعيماً شعبياً يجب أن تكون زعيماً في الطائفة، ولتصبح زعيماً في الطائفة يجب أن تكون طائفيّاً».

ويرى مروة أن أحد أسباب ذلك كان «عدم وجود أحزاب قادرة على تجاوز هكذا انتماءات، في ظل مستوى متخلف للتطور الاقتصادي وللبنى الاجتماعية».

وقد استوقف ميشال شيحا، في 21 تموز 1949، «هزال التكتلات السياسية في مواجهة الإقطاعيين». وكتب تحت عنوان «حتى تكون لنا عقيدة سياسية»: «نقول تكتلات متفادين كلمة الأحزاب. وذاك أن ما يسمّى أحزاباً سياسية خليقة بهذا الاسم ليس له، بين ظهرانينا، وجود». وفيما يرى أن «الحس السليم يقضي، في بلاد مثل بلادنا، أن ينمو التنظيم السياسي وأن يتقهقر الجهاز الإقطاعي»، يلاحظ أن «الآلة السياسية اللبنانية تدور، برمّتها، في اتجاه إضعاف المنظمات التي لها هذه الصفة».

ويعتقد بقرادوني أن «معظم الرجال، سواء أكانوا مسيحيين أم مسلمين، الذين حكموا بعد الاستقلال كانوا واعين لأهمية السلطة لكنّهم لم يعوا أهمية الدولة، فاعتبروها مجرد صراع على السلطة. لقد أدى صراع النفوذ بين الكتل والشخصيات السياسية إلى العودة إلى الوراء». ويقول: «كان بيار الجميل يقود حزباً أقل طائفية منه في الحالات العادية، لكنه كان يستطيع في أي وقت أن يجيّشه طائفيّاً، فتصبح قاعدته الشعبية أكثر تطرفاً منه. وهكذا برز الجميل متصلباً حيناً ومعتدلاً أحياناً، وبرز الكتائب مرة متطرفاً ومرات منفتحاً... والأمر نفسه ينسحب على كمال جنبلاط ولو بصورة مختلفة. كان جنبلاط صاحب مشروع عربي وحتى أممي، لكن الواقع الدرزي كان يشدّه للتحسس بالأمور الضيّقة والعادية. وكان النظام الطائفي أصغر من طموحاته: كان بمقدوره أن يصنع الرؤساء غير أنه كان لا يقدر أن يكون رئيساً... وهناك مثل ثالث هو كميل شمعون الذي لا تعني له الأحزاب شيئاً، وعرف أن بمقدوره أن يكون زعيماً دون حزب، وحزبه كان مجرد تسمية، كان يوجد شمعونيون فقال لهم: أنتم أصبحتم حزب الأحرار. ولم يهتم يوماً بتنظيم هذا الحزب، ومع ذلك كان زعيماً. واستطاع أن ينتقل من سياسة ذات طابع عروبي إلى سياسة معادية للعروبة بالجماهير نفسها».



كمال جنبلاط صاحب مشروع أممي ويشدّه الواقع الدرزي إلى الأمور الضيّقة



الزعماء والدولة

لم يقتصر تأثير انشغال الزعماء بحساباتهم على التحالفات السياسية، ولا سيما الحركة الاستقلالية، بل أثر في قيام الدولة. وفيما يعتبر مروة أن «الميثاق كان ضرورة» يأخذ على «الذين قاموا بهذه التسوية» أنهم لم يشعروا «بضرورة البحث في كيفية تطويرها وتثبيتها ليكون الاستقلال أكثر ثباتاً وأكثر ارتباطاً بالمستقبل. ولم تنشأ عند هذه القوى قناعة بضرورة تطوير الميثاق. إلا أن ذلك لا ينفي أنه نشأ، منذ أن وضع دستور عام 1926، شعور بخطر الطائفية، وشعور بضرورة عدم استمرار تحكّم الطائفية في بناء الدولة».

ويستنتج بقرادوني أن «القيادات اللبنانية الكبيرة التي صنعت الاستقلال لم تهتم ببناء الدولة، ولم تنشئ أحزاباً بل كتلاً، والذين أسّسوا أحزاباً شَخصَنوها. فكانت الأحزاب صنيعة الأشخاص وضحيّتها، وبالتالي لم تكن قادرة على بناء مؤسسات عصرية. كانت الأحزاب ضحية زعاماتها، والدولة ضحية شخصيّاتها».

ولدى بقرادوني «أسباب عديدة لعدم بناء دولة الاستقلال»، إلا أنه يركز على «سبب داخلي أساسي هو تعدد الولاءات، وسبب خارجي أساسي هو قيام إسرائيل وردات الفعل العربية التي نشأت عنه». ويضيف: «إن تعددية الولاء عند معظم المسلمين واقتناع الأكثرية منهم بأن لبنان وطن مؤقّت أبعدهم عن بناء الدولة، إضافة إلى اهتمامهم بالقضية الفلسطينية أكثر من القضية اللبنانية. وإن تمسك المسيحيين بالنظام الطائفي أخّر عملية بناء الدولة، إضافة إلى البحث عن حماية أجنبية أو عن قيام دولة مسيحية، مما حملهم على الاهتمام بالصيغة اللبنانية أكثر من اهتمامهم بالدولة اللبنانية».

ويلتقي مروة، تقريباً، مع هذا، إذ يقول: «ارتكب اللبنانيون خطأين معاكسين: المسيحيون سعوا إلى عزل لبنان عن محيطه العربي خوفاً من تعريبه أو أسلمته، والمسلمون تخطوا الكيان اللبناني إلى القومية العربية دون المرور بالوطنية».


فساد وتزوير وتجديدان

يعتبر كمال الصليبي أن «ضعف السنوات الأولى للاستقلال، تحت رئاسة بشارة الخوري، ظهر أكثر ما يكون في الميدان الإداري. وليس هذا بمستغرب في بلاد سيطرت فيها المصالح العائلية والطائفية. ثم أن الفساد في الإدارة اللبنانية لم يكن جديداً، وإنما كان موروثاً عن عهود سابقة. إلا أن وطأة هذا الفساد ازدادت في عهد الخوري. فعمّت المتاجرة في النفوذ، وكثرت الفضائح. ومما ساعد على انتشار الفساد صلات الصداقة والقربى التي جمعت بين رئيس الجمهورية وكبار رجال الأعمال الذين استفادوا من وجوده في الحكم لخدمة مصالحهم».

ويروي الصليبي: «كانت مدة رئاسة الجمهورية قد أعيد تحديدها، قبيل انتخابات 1943، بست سنوات غير قابلة للتجديد. فما إن جاء عام 1947 حتى تبيّن أن الخوري ينوي تعديل الدستور ليتمكن من تجديد مدة رئاسية. وكان ذلك العام موعداً لأول انتخاب نيابي يجري في عهد الاستقلال. وجرى هذا الانتخاب في 25 أيار، فكان فضيحة العهد الكبرى. إذ لجأت الحكومة إلى التزوير على نطاق واسع لتضمن المجيء بمجلس جديد مؤيّد للعهد. وفي العام التالي، عدّل المجلس الجديد الدستور بحيث أفسح للرئيس الخوري، بصورة استثنائية، مجال انتخابه لمدة ست سنوات أخرى. أثارت فكرة التجديد للخوري ثائرة الزعماء الموارنة الطامحين إلى خلافته في رئاسة الجمهورية، فهبّوا إلى المعارضة. وكان في طليعة هؤلاء كميل شمعون، العضو السابق في الكتلة الدستورية».



دفع كميل شمعون ممارسته للسلطة إلى حدود الحكم الفردي



انقلاب قومي سوري

قبل أن تتشكل معارضة في وجه الخوري، واجه أحداثاً أضرّت بشعبيّته. ومن ذلك، وفق الصليبي، «فشل الدول العربية في محاولتها لمنع قيام دولة إسرائيلية في أرض فلسطين، مما أفقد الحكومات العربية، ومنها اللبنانية، كثيراً من الاحترام. وكان، في 30 آذار 1949، أن أطاح الجيش السوري، بقيادة حسني الزعيم، حكومة سوريا الدستورية، ولعل هذا ما شجّع الحزب السوري القومي على أن يحاول القيام بانقلاب مماثل في لبنان».

ويروي طرابلسي: «بُعيد الاستقلال، خفّف (زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون) سعادة من رفضه للكيان اللبناني معلناً أنه يقبل به لاعتبارات سياسية ودينية لكن ليس لاعتبارات قومية. غير أن النكبة الفلسطينية أعادت وضع الحزب على طريق المعارضة الجذرية. كتب سعاده أن الهزيمة العربية عام 1948 برهان على إفلاس القومية العربية. واتهم الحكومة اللبنانية، ورياض الصلح خصوصاً، بالمسؤولية عن تلك الهزيمة. أنباء وردت عن اتصالات تجري بين سعادة والزعيم زادت الأسباب التي دفعت الحكومة للتوجس من سعادة وحزبه. يوم 9 حزيران وقع اشتباك بين مناصري الحزب السوري القومي ومناصري الكتائب في حي الجميزة الشعبي أحرقت خلاله البناية التي تؤوي جريدة الحزب، الجيل الجديد. اتخذت السلطات من ذلك الاشتباك مبرراً لحملة اعتقالات واسعة ضد أعضاء الحزب ومناصريه وإذا الإعلان عن اكتشاف مخابئ أسلحة يعزّز اتهام الحزب بأنه يخطط لإسقاط الحكومة بالعنف. فرّ سعادة إلى دمشق حيث مُنح اللجوء السياسي ومن دمشق أعلن الثورة الشعبية يوم الأول من تموز 1949، حاولت خلالها فرق من مسلحي الحزب الاستيلاء على مراكز حكومية في البقاع والتحرك نحو الشوف وضواحي بيروت، فانهارت الثورة في غضون 72 ساعة، مخلفة عدداً من القتلى والجرحى وحملة مطاردة واعتقالات واسعة ضد أعضاء الحزب».

والنتيجة، وفق الصليبي: «حل الحزب وإعدام سبعة من أعضائه، بمن فيهم زعيمه سعاده. فعمل ذلك، بالطبع، على اكتساب عداوة السوريين القوميين ومؤيّديهم للعهد القائم. وعمدت الحكومة اللبنانية، في الوقت نفسه، إلى حل الكتائب والنجادة وغيرهما من المنظمات شبه العسكرية في البلاد فدفعتها جميعاً إلى الوقوف في صف المعارضة».

معارضة جديدة: ثورة بيضاء

مطلع 1950، وفق طرابلسي، «انعقد تحالف لقوى وشخصيات المعارضة بقيادة جنبلاط وشمعون وريمون إده وبيار إده إضافة إلى أحزاب الكتائب والنجادة والسوري القومي الاجتماعي والشيوعي، تشكلت بموجبه الجبهة الوطنية الاشتراكية التي أقرت يوم 16 أيار 1952، برنامجاً طموحاً من السياسات الديمقراطية والمعادية للاحتكار يستلهم أفكار جنبلاط وبرنامج الحزب التقدمي الاشتراكي.

وبعدما خسر الخوري أقوى حلفائه، رياض الصلح، الذي اغتاله أحد أعضاء الحزب السوري القومي الاجتماعي انتقاماً لإعدام زعيمه في 1951 في الأردن، «فجّر رئيس الوزراء سامي الصلح قنبلته السياسية، في 9 أيلول 1952». فقد أعلن، وفق طرابلسي، أن «سلطة خفية تقود الجمهورية وتعرقل أي إصلاح. وتحدث عن رجال يمسكون بالسلطة دون أن يكونوا مسؤولين أمام أحد ويتدخّلون في شؤون الدولة، في إشارة واضحة إلى شقيق الرئيس ومستشاريه».

الآن هنا، دقّت ساعة عهد الخوري. وكان ذلك، بحسب كتاب «ربع قرن من النضال» لكمال جنبلاط، عبر «الثورة البيضاء دون إراقة دماء، أي بالأسلوب البرلماني والشعبي والديمقراطي». وجاء في الكتاب: «في 21 أيلول 1952 عقد اجتماع بالغ الأهمية للجبهة الاشتراكية الوطنية قررت فيه البرنامج الذي يلتزم به مرشحها لرئاسة الجمهورية، وأعلنت ترشيح شمعون للرئاسة الذي انتخب يوم 23 أيلول 1952 رئيساً للجمهورية».

تفكّك الجبهة وصراع أشخاص

لعل هذه المعارضة أسرع جبهة في الانهيار بتاريخ لبنان. ويقول الصليبي: «ما إن تسلم الرئيس شمعون مهام منصبه حتى انقطع فجأة حبل التحالف بينه وبين جنبلاط. ذلك أن جنبلاط طالب باشتراكه في وضع سياسة العهد الجديد. وأصر على وجوب إحالة الرئيس السابق إلى المحاكمة، وأصر على وجوب فتح تحقيق في الثراء الفاحش الذي فاز به أنصاره وأعوانه. ولعل جنبلاط، في إصراره هذا، عكس تفكير فئة كبيرة من اللبنانيين. إلا أن هذا الموقف، وإن اعتبره البعض صحيحاً من الناحية النظرية، فإنه لم يكن منسجماً مع واقع البلاد... وسرعان ما وجد زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي حليفه السابق يحيط نفسه، في رئاسة الجمهورية، بمن كانوا بالأمس من مؤيدي الخوري، فعاد إلى المعارضة واستمر في مناوأة العهد الجديد». ويذكر محسن دلول أن جنبلاط قال في خطاب علني: «نحن من قال للطاغية (الخوري) زل فزال، وللآخر (شمعون) كن فيكون».

ويتفق طرابلسي والصليبي على «سلطوية الرئيس». فيكتب الأول: «دفع شمعون ممارسته للسلطة إلى حدود الحكم الفردي، متكلاً على تفسير حرفي للنص الدستوري على حساب نص الميثاق الوطني وروحه». فيما يرى الثاني أن شمعون «حاول تحطيم نفوذ خصومه السياسيين بشتى الوسائل، فأخذ يوطد مكانته الشخصية ويحد من مكانة غيره من كبار زعماء البلد».

ويقر بقرادوني بأن «عهد شمعون لم يشهد تطوراً في الوعي الوطني وطغى صراع الأشخاص، غير أنه تكونت في تلك الفترة طبقة وسطى ضمنت نوعاً من ليبرالية النظام ومن استقراره وازدهاره». ويستدرك بقرادوني: «لكن سرعان ما تغلبت على سياسته لعبة السلطة بدل بناء الدولة، فاعتمد في قانون الانتخابات الدائرة الصغرى، أي الدائرة التي تحكمها عائلة أو طائفة، واستخدم حنكته وشعبيّته في انتخابات 1957 ليضمن أكثرية نيابية توافق على تجديد ولايته». وقد أسفرت تلك الانتخابات وقانونها المفصّل عن خسارة جنبلاط وصائب سلام وأحمد الأسعد وإبعادهم عن البرلمان. وينقل دلول عن زلفا شمعون، زوجة الرئيس، تعليقها على إبعاد جنبلاط عن البرلمان: «هذا جنون... إنها مجازفة بالجبل وبلبنان».

وإذ يسجل الصليبي نقطة إيجابية لعهد شمعون هي «نجاحه في المحافظة على النظام الديمقراطي الحر في فترة بدأت تظهر فيها أنظمة الحكم العسكرية في البلدان المجاورة»، يرى بقرادوني أن «تزامن وصول شمعون إلى رئاسة الجمهورية مع ثورة عبد الناصر... أدى إلى تعزيز الردة الطائفية، وعاد المسيحيون يفتّشون عن حماية جديدة». وفي ظل الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، «عرف شمعون أن يعبر بالضبط عن هواجس المسيحيين عندما اعتبر أن الحماية لم تعد فرنسا بل أميركا، ودخل في مشروع إيزنهاور وحلف بغداد». وفي المقابل، «أيقظت سياسة عبد الناصر، في لبنان، حماسة دعاة الوحدة العربية من المسلمين وسواهم»، وفق الصليبي.

من الأزمة إلى «الثورة»

مع مساعي شمعون لتكرار سيناريو التجديد الذي ارتكبه الخوري، إضافة إلى انحيازه للسياسة الأميركية وحلفائها في المنطقة، بدأت تتّجه الأزمة السياسية نحو «ثورة». وفي آذار 1958، «اجتمعت 58 شخصية من المعارضة ومن القوة الثالثة، نصفهم من المسيحيين. وأعلن المجتمعون معارضتهم ولاية ثانية للرئيس واتهموا شمعون بإثارة المخاوف على أمن البلاد خدمة لأغراضه الشخصية»، وفق طرابلسي.

وفيما كان لبنان «برميل بارود على أهبة الانفجار»، بحسب طرابلسي، «جاءته الشرارة يوم 7 أيار عند اغتيال الصحافي ذي الميول اليسارية نسيب المتني، صاحب اليومية المعارضة، التلغراف، ورئيس تحريرها المعروف بانتقاداته الحادة لسياسة شمعون الخارجية وللفساد في عهده. في اليوم التالي، دعت المعارضة إلى الإضراب العام وفي يوم التشييع انطلقت تظاهرات عارمة في عكار والمنية والشوف والبقاع وصيدا، عبّرت عن الغضب والاستنكار تجاه الأحلاف العسكرية الأجنبية وطالبت باستقالة شمعون. في طرابلس، اشتبك أنصار رشيد كرامي مع الجيش وفي بيروت الغربية ظهرت المتاريس في الشوارع».

يضيف طرابلسي: «بعد شهرين من القتال، كانت المعارضة تسيطر على ثلاثة أرباع البلاد. التزم الجيش، بقيادة فؤاد شهاب، سياسة يمكن تسميتها بسياسة «الحياد الفعال»، تحاول احتواء الثورة بدلاً من سحقها... وعند اندلاع المعارك، طالب شارل مالك (وزير الخارجية) رسمياً الولايات المتحدة بالتدخل العسكري في لبنان... وفي 14 تموز 1958 سقطت الملكية في العراق في انقلاب نفذته وحدات من الجيش بقيادة الضباط الأحرار... وعصر 15 تموز، فيما المظليون البريطانيون يهبطون في مطار عمّان، كانت طلائع وحدات المارينز الأميركية تنزل إلى شاطئ خلدة جنوبي بيروت». وبعدما «ظن شمعون أن الإنزال دعم استراتيجي له لتحقيق الانتصار على خصومه... اتضح له أن الأسطول السادس جاء إلى بيروت لفرض خليفة له لا لمناصرته»: فؤاد شهاب (اتفاق أميركي - مصري).

MISS 3