جويل غسطين

مسرحيّة "ع الأربعين"

حين تتحدّث الأرامل بصوتٍ عالٍ

في صالون كنيسة هادئ حيث تُقام جنازة الأربعين، تدور أحداث مسرحية «ع الأربعين»، العمل المسرحيّ الجديد الذي كتبه ديمتري ملكي وأخرجه شادي الهبر، بمزيج دقيق من الكوميديا والدراما، ليستعرض بحسّ ساخر وحقيقي في آنٍ، حكايات نساء يلتقينَ عند تقاطع الذّاكرة والفقد.

تلتقي فوق خشبة المسرح شخصيّتان محوريّتان: الأولى، ماري-تيريز هراوي، الأرملة المنفتحة والمتباهية الّتي تنتمي إلى طبقة اجتماعية ميسورة، تجسّد شخصيّتها الممثّلة جوزيان بولس. والثانية، جانيت سكاكيني، المرأة المحافظة والخاضعة للتّقاليد، الّتي تؤدّي دورها الممثّلة ميراي بانوسيان. هراوي وسكاكيني يجمعهما المكان والحدث – أربعين زوجَيهما – لكن سرعان ما ينكشف التّباين الصّارخ بين عالميهما.


لا يخلو الحوار بين الشّخصيتين من الفكاهة، لكنّه يغوص في عمق التّجارب النّسائية الّتي غالباً ما تبقى في الظّل. تكشف كلّ واحدة منهما أسرارها، مآسيها، خيباتها، وربّما أيضاً أمنيات دفينة لم تخرج إلّا بعد موت الشّريك. وبين ضحكة ودمعة، ترتسم صورة مرآة لحياة الكثير من النّساء اللّواتي عشن بصمتٍ، تحت عباءة «المقبول اجتماعياً».



متعجرفة ولكن!

تُجسّد جوزيان بولس في المسرحيّة إذاً شخصيّة ماري-تيريز هراوي. سيّدة في أوائل السّتينات من عمرها، تنتمي إلى طبقة الأثرياء الجدد، وتعيش مرحلة الحداد بعد أربعين يوماً على وفاة زوجها. رغم ذلك، ترفض ارتداء اللون الأسود، مبرّرةً ذلك بأنّ زوجها لم يكن يُحبّ هذا الّلون.


في حديثها مع «نداء الوطن»، توضح بولس أنّ شخصيّة ماري-تيريز تظهر في البداية كامرأة متعجرفة، كثيرة الكلام ومنفتحة إلى حدّ الجرأة، تهتمّ كثيراً بالمظاهر وتعكس صورة سطحيّة للوهلة الأولى. لكن مع تطوّر الأحداث، ينكشف عمق شخصيّتها وقوّتها، إذ يتبيّن أنّ خلفَ عجرفتها امرأة واثقة تعرف تماماً كيف تدافع عن نفسها وتفرض حضورها وسط الآخرين.


وعن كواليس اختيارها لتأدية الدَّور في مسرحية «ع الأربعين»، تقول بولس إنّ الاختيار حمل بُعداً شخصيّاً ولفتة إصرار من مخرج العمل شادي الهبر. تروي بولس التّفاصيل ببساطةٍ ودفء موضحةً: «في أحد الصّباحات، زارني شادي في المكتب بالمسرح، وقال لي إنّه مصرّ أن أكون في هذا العمل المسرحيّ». من جهتها عبّرت بولس عن إعجابها بالعمل وقبلت الدّور دون تردّد.



هنا أشبه ماري-تيريز

ترى الممثّلة جوزيان بولس أنّ شخصيّتها في الحياة تختلف تماماً عن شخصيّة ماري-تيريز هراوي الّتي تقدّمها على خشبة المسرح. وتوضح: «لا شبه بيني وبينها، فأنا بعيدة كلّ البعد عن التّصنّع والتّباهي. على العكس تماماً، لا أولي أهميّة كبيرة لنظرة الناس عنّي». لكنّها في الوقت نفسه، تعترف بوجود نقطة تقاطع واحدة بينهما، قائلةً: «هي تشبهني بانفتاحها وقوّة شخصيتها. وهذا الأمر سلاح ذو حدّين، خصوصاً للمرأة». وتختم بولس حديثها بتأكيدها أنّها تعيش حياتها كما هي، بلا تكلّف أو تقيّد بآراء الآخرين.



تجربة جديدة

من جهتها، تؤدّي الممثّلة ميراي بانوسيان في «ع الأربعين» دور جانيت سكاكيني. شخصيّة تحمل في طيّاتها الكثير من التّناقضات الإنسانية والاجتماعيّة. تصف بانوسيان، «مدام سكاكيني»، بكونها امرأة محافظة وستورة وتقليديّة، تضع حسابات المجتمع والعائلة والزّواج فوق حاجاتها ورغباتها الشّخصيّة، ما يجعلها نموذجاً مألوفاً في واقعنا، وإن بدا في كثير من الأحيان صامتاً.


تُعرف بانوسيان بقدرتها على التّوغّل في أعماق الشّخصيّات التي تجسّدها، وهي تؤكّد أهميّة فهم الجوّ العام لأيّ عملٍ مسرحي قبل الغوص في تفاصيله. وفي حديثها لـ «نداء الوطن» عن «ع الأربعين»، تشرح أنّ اللّعبة تبدأ من العلاقة بين جانيت و «مدام هراوي» خلال «جنّاز الأربعين»، حيث تتقاطع شخصيّتان مختلفتان جذريّاً: «مدام هراوي امرأة جريئة وقويّة لا تعبأ بالتّقاليد، بينما جانيت كتومة وخاضعة، تخاف أن تُظهر حقيقتها أمام الآخرين»، تقول بانوسيان.



تقاطعات بين امرأتين

رغم اختلاف الطّباع، ترى بانوسيان أنّها تلتقي مع شخصية جانيت في بعض النقاط، فجانيت ليست غريبة عنها، بل تعكس ضمن طيّات شخصيّتها أوجاعاً وواقعاً نسائيّاً لطالما صادفته في الحياة اليوميّة، سواء في محيطها أو في تجاربها الشّخصيّة.

ما يميّز جانيت، وفقاً لبانوسيان، هو تركيبتها النّفسية المعقّدة. فهي تتأرجح بين التّمسّك بالتّقاليد بشكلٍ متزمّت، وبين رغبات داخليّة مكبوتة تبدأ بالظّهور تدريجيّاً خلال العرض. وتصف بانوسيان هذه الشّخصية بأنها تختصر قصص نساء كثيرات حملن أوجاعهنّ بصمتٍ، مضيفة: «صار وقت الحديث عنهنّ على المسرح».



كيمياء فنّية وإنسانية

في كواليس مسرحيّة «ع الأربعين»، لا تقتصر العلاقة بين جوزيان بولس وميراي بانوسيان على الشّراكة الفنية حصراً، بل تتعدّاها إلى صداقة شخصيّة صادقة تنمو يوماً بعد يوم، وتنعكس بشكلٍ مباشر على خشبة المسرح. تصف بولس تجربتها مع بانوسيان بأنّها «فرصة حقيقيّة ومميّزة»، مضيفةً: «ميراي فنّانة كبيرة، موهوبة، كريمة، وإنسانة مميّزة بكلّ معنى الكلمة. من اللّحظة الأولى شعرت باحترام كبير وبلطفٍ منها، ما خلق بيننا طاقة جميلة على الخشبة».


هذه الصّداقة، الّتي تتعزّز مع مرور الوقت، تُضفي عمقاً على التّمثيل المشترك وتُغني التّجربة المسرحيّة ككلّ. تؤكّد بولس أنّ ما يميّز هذه العلاقة هو غياب أيّ شعور بالمنافسة أو الغيرة، «بل على العكس تماماً، هناك تعاون وتشجيع متبادل، نضحك كثيراً، نساعد بعضنا، ونتبادل الأفكار بكل حبّ». بالنّسبة لبولس، العمل إلى جانب بانوسيان ليس فقط متعة فنّية، بل أيضاً تجربة تعليميّة مُلهمة. هكذا، تتحوّل الصّداقة بينهما إلى عنصر أساسي في نجاح العرض، وكأنّ الكيمياء بين الشّخصيتين على المسرح تنبع من كيمياء حقيقيّة خلف الكواليس.


إذاً، «ع الأربعين» التي تنطلق عروضها على «مسرح المونو» في الأشرفية في 14 أيار الجاري، ليست فقط مسرحيّة حول أرملتَين تتبادلان الذّكريات، بل هي عمل عن النّساء اللّواتي لم تُسمع أصواتهنّ لسنوات، عن التّقاليد التي كبّلتهن، وعن القوّة التي تُولد حين تُروى القصص أخيراً، بصوتٍ عالٍ.