محمد عبيد

هل ستشتري واشنطن بضاعة باسيل؟

26 نيسان 2021

02 : 00

المراقب لإعلام كيان العدو الإسرائيلي لن يجد فيه ما يؤشر الى أي نوع من التباين أو الإختلاف بين دوائر القرار فيه حول مقاربة مسألة «حدوده» البحرية مع لبنان. على الرغم من أن هذا الكيان يعاني من أزمات حكومية فرضت إجراء أربعة انتخابات تشريعية خلال السنتين الماضيتين.

في المقابل، يستفيق اللبنانيون صباح كل يوم على طروحات متناقضة ومتضاربة حول حدود لبنان البحرية الجنوبية وحقوقه في ثرواته النفطية والغازية الكامنة ضمن هذه الحدود.

ينطلق العدو من تماسك داخلي يضع مصالح الكيان المحتل في إستثمار ثرواته فوق أية إعتبارات سياسية أو حزبية أو شخصية. في حين تعاطى سابقاً ويتعاطى الآن معظم السلطة اللبنانية مع ملف الحدود والحقوق هذا من منطلق الإستثمار فيه كمادة للمساومة مع «الوسيط» الأميركي لتجنب إثارة غضبه خوفاً من العقوبات أو الحصار السياسي.

بعد تسلم رئيس الجمهورية ميشال عون ملف التفاوض غير المباشر مع العدو الإسرائيلي حول ترسيم الحدود البحرية الجنوبية، كان من المفترض أن يتحرك العمل بهذا الملف بإنسيابية تامة تعزز أوراق الوفد العسكري التقني المفاوض.

لذلك تم وضع رؤية تحصر التفاوض غير المباشر بترسيم الحدود البحرية الجنوبية دون سواها، إنطلاقاً من قاعدة أن العدو الإسرائيلي مستعجل جداً للوصول الى حلول تسمح له بالإستثمار السريع في حقل «كاريش»، بعدما كان قد أنجز سابقاً جميع خطوات الإستكشاف والتنقيب في هذا الحقل وهو بإنتظار وصول الباخرة اليونانية «إنرجينا» للبدء في إستخراج الغاز منه.

وقد تضمنت هذه الرؤية التي تبناها الرئيس عون في مقدمة فقرتها الثانية النص التالي: «إن حاجة لبنان لترسيم حدوده البحرية تحمل أبعاداً متعددة: أولها سيادي يتعلق بواجب أي دولة الحفاظ على أمن حدودها بحرية كانت أم برية أم جوية. وثانيها إقتصادي بهدف الحفاظ على ثروات لبنان الكامنة في مياهه أو ما يسمى «المنطقة الإقتصادية الخالصة»، والأهم إستخراج هذه الثروات وتوظيف عائداتها لتعزيز بُنيته الإقتصادية والإجتماعية، وهو أمر بات ملحاً جداً في ظل الأوضاع المالية والمعيشية الضاغطة على اللبنانيين». كذلك تم وضع آلية لتنفيذ هذه الرؤية أهم بنودها التالي: «إن التفاوض غير المباشر برعاية الأمم المتحدة وبوساطة أميركية متفق عليها سابقاً، يستوجب أولاً تقديم لبنان رؤيته القانونية-الجغرافية وإبلاغها الى الأمين العام للأمم المتحدة بصيغة مرسوم صادر عن رئيسي الجمهورية والحكومة المعنيين المباشرين بالتفاوض وفقاً للمادة 52 من الدستور اللبناني، وذلك بهدف إعادة عملية التفاوض المفترضة الى مسارها «الدولتي» وإخراجها من أي بازار سياسي أو مساومات يمكن أن يسعى الطرف الآخر العدو الى تسويقها».

بدا واضحاً من خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده أول من أمس النائب جبران باسيل أنه غير مُطلع على الثوابت التي إنطلق منها عمه رئيس الجمهورية في مقاربته لموضوع ترسيم الحدود البحرية الجنوبية، كما أنه غير مُلم بالإتصالات وبالأوراق التي تم تبادلها خلف الكواليس كي يبصر هذا الملف النور من جديد إنطلاقاً من قصر بعبدا.

غير أن المؤسف في كلام باسيل هذا إستخفافه بالأهلية القيادية التي يتمتع بها الرئيس عون، كذلك تجاهله الفوقي للوعي الدستوري الذي دفع عمه الى طلب إسترداد الملف الى كنف الرئاسة. حيث قال باسيل حرفياً: «ويلّي كانوا عم يحاولوا يوقعوا الرئيس بالفخ، كان بعضهم عم يقوم بعمل مشبوه ومدسوس، ونشكر الله انّو الرئيس امتنع عن ارسال الكتاب. كمان ما بيجوز تغيير الحدود بمرسوم استثنائي».

سأكتفي الآن بإيراد هاتين الفقرتين من الرؤية والآلية اللتين تم تبنيهما وإقرارهما من قبل رئيس الجمهورية كأساس لبدء المفاوضات غير المباشرة حول ترسيم الحدود، وأتمنى ألا يتعب مسؤولو دوائر القصر الجمهوري بحثاً عن هذه الأوراق لأنه ربما لن يجدوها في أرشيفه كونها كانت مدار بحث بين الرئيس نفسه وبيني حصراً، مذكراً هؤلاء بأنه لم يسبق لأي منهم أن شارك في أي إجتماع حصل بيننا.

أما الأكثر إستغراباً أن يعود النائب باسيل الى طرح موضوع تشكيل وفد سياسي-إداري كبديل عن الوفد العسكري-التقني بشكل علني، بعد أن كان قد حاول تمريره سراً من خلال إضافة إسمي مدير عام رئاسة الجمهورية أنطوان شقير ومدير مكتبه في وزارة الخارجية هادي هاشم الى الوفد المفاوض، وللتذكيرهو أمر إستوجب موقفاً رافضاً من «حزب الله» والرئيس نبيه بري الذي كان واضحاً خلال إعلانه عما يسمى «إتفاق الإطار» أن هذا الأمر بات بعهدة الجيش اللبناني حصراً، على الرغم من الشوائب التي إعترت الاتفاق المذكور.

على أي حال، يبدو أن النائب باسيل قرر التقدم أكثر في الكشف عن مكنوناته في مقاربة الموقف من كيان العدو الإسرائيلي، بعدما كان قد صرح سابقاً لإحدى فضائيات «الممانعة» أنه ليس لديه عداء إيديولوجي مع هذا الكيان، ومن ثم أعلن من بهو وزارة الخارجية اللبنانية خلال مؤتمر صحافي مع وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو «أن لبنان أمام فرصة ذهبية لتبادل أراضي مع إسرائيل»، وذلك بهدف إيجاد تسوية للحدود البرية وإنهاء مسألة «الخط الأزرق»، معللاً ذلك بإمكانية إكتساب مساحات جديدة من الأرض مغفلاً عن قصد إحتفاظ العدو بمواقع إستراتيجية تحقق مساعيه التاريخية لتثبيت ترتيبات أمنية تحاصر لبنان ومقاومته.

لست في معرض تخوين النائب باسيل، إنما أوردت وقائع معلنة لا بد من التوقف عندها لفهم نوعية العقل السياسي الذي يفرض نفسه مرشداً لموقع رئاسة الجمهورية في هذا الملف وفي غيره.

هذه الوقائع التي بلغت ذروتها من خلال طرح باسيل الإستباقي لموضوع «الشراكة» الإستثمارية مع كيان العدو قبل الوصول الى ترسيم نهائي للحدود البحرية الجنوبية مع هذا الكيان. وهو أي باسيل يؤكد بذلك ما سبق وقلته خلال آخر مقابلة تلفزيونية بأن واشنطن أبلغت رئاسة الجمهورية موافقة «إسرائيل» على العودة الى طاولة المفاوضات بشرطين، الأول: التمسك بمناقشة موضوع ترسيم الحدود إنطلاقاً من المراسلات المودعة لدى دوائر الأمم المتحدة، أي وفقاً للمرسوم 6433 بالنسبة للبنان. والثاني: البحث في كيفية إدارة وإستثمار الحقول الإفتراضية المشتركة بين لبنان وبين كيان العدو.

أما مسألة خطوط الحدود فهي متروكة للوفد العسكري-التقني اللبناني المفاوض الذي يتمتع بأهلية وطنية تحمي حقوق لبنان وثرواته، كما لديه خبرات إحترافية عالية تتجاوز الكثير من مقدرات الخبراء الدوليين الذين يدعو البعض الى إستدعائهم. لذلك ومن منطلق الحرص على عناصر القوة القانونية والتقنية والإنسجام التي إستند إليها هذا الوفد في جلسات التفاوض السابقة، لا بد من إسداء النصيحة لأصحاب القرار بتجنب إجراء أي تعديل أو إضافات على تركيبة الوفد المذكور يُضعف هذه العناصر ويصاعد الجدل السياسي الداخلي اللبناني، في حين أن المطلوب هو العمل على تأمين إجماع وطني يكون داعماً للمفاوضين اللبنانيين لتثبيت حقوق لبنان في حدوده وثرواته. يقول بعض المطلعين أن النائب جبران باسيل إستبشر خيراً بعد رفع الولايات المتحدة الأميركية العقوبات عن تنظيم «أنصار الله- الحوثيين» في اليمن، معتبراً ذلك سابقة يمكن البناء عليها لإيجاد مخرج مع الدوائر الأميركية المعنية تلغي العقوبات المفروضة عليه.

ويضيف هؤلاء أن باسيل الذي يقارب معضلته العقابية بعقلية الـ wishful thinking»» تناسى أمرين أساسيين: الأول، أن إدارة بايدن تسعى الى إنهاء الحرب في اليمن، ولذلك هي مضطرة الى تسهيل حضور الأطراف المعنية كافة على طاولة المفاوضات المرتقبة. والثاني، أن العقوبات التي طالته مبنية على قانون «ماغنيتسكي» المعني بقضايا الفساد.

ولذا كما يقول المطلعون أنفسهم، فإنه لا تشابه بين الحالتين خصوصاً وأن باسيل لا يمتلك بين يديه أية عناصر قوة داخلية أو إقليمية مؤثرة يمكن أن تدفع الإدارة الأميركية الجديدة الى التفاوض معه وإعفائه من تداعيات تلك العقوبات عليه، وبالتأكيد لن يتمكن من الإستحواذ على ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية كي يوظفه في سعيه لتجميع عناصر القوة تلك.

مع ضرورة الإشارة الى أن باسيل سبق وتمركز في مقر قائد لواء الحرس الجمهوري في بعبدا وإستوطن في قصر الرئاسة، آملاً أن يشم رائحتها بعد إستحالة أن يذوق طعمها، لكن ذلك لن يعفي لبنان واللبنانيين من نتائج وجوده هناك.

( *) المدير العام السابق لوزارة الإعلام


MISS 3