مايكل هيرش

الحرب الباردة حتمية؟

6 شباط 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

أصرّ الدبلوماسي الأميركي جورج كينان على عدم اعتبار الحرب الباردة حتميّة حين كان في عمر الرابعة والتسعين، إذ لطالما اقتنع بإمكانية تجنّبها أو تحسين مسارها على الأقل. بعد مرور عشر سنوات على انتهاء ذلك الصراع الذي امتدّ على 44 عاماً، ذكر كينان المؤيد للحلول السلمية وعرّاب استراتيجية الاحتواء الأميركية خلال الحرب الباردة، في رسالة إلى كاتب سيرته الأكثر دعماً لاستعمال القوة العسكرية، جون لويس غاديس، أن إيجاد مخرج مبكر للحرب كان ممكناً في عهد الدكتاتور السوفياتي جوزيف ستالين.






حملت هذه الرسالة اسم "مذكرة ستالين" وظهرت في آذار 1952، وشملت اقتراحاً من موسكو لإجراء محادثات حول شكل أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. هي تثبت أن الولايات المتحدة تجاهلت خيارات السلام التي يمكن تطبيقها عن طريق "التفاوض الجدّي، بعيداً عن المواقف العلنية"، كما كتب كينان في العام 1999.

لا يزال صدى تلك الكلمات مستمرّاً حتى اليوم، إذ تكشف المواقف العلنية راهناً أن الولايات المتحدة بدأت تنجرّ إلى نوع جديد من الحرب الباردة مع الصين وروسيا في آن. مع ذلك، لا يدور أي نقاش أو جدل حول هذه السياسات في واشنطن. في ما يخصّ التحديات التي تطرحها الصين، يعتبر السياسيون في المعسكرين أن تحقيق المكاسب السياسية ممكن عبر الدعوة إلى اتّخاذ موقف أكثر صرامة ضد بكين. نتيجةً لذلك، نشأ صراع طويل الأمد على النفوذ العالمي، وقد يدوم لفترة أطول من الحرب الباردة الأولى.

تظهر الرسائل المتبادلة بين كينان وغاديس في السيرة الجديدة Kennan: A Life Between Worlds (كينان: حياة بين العوالم)، بقلم فرانك كوستيغليولا. يرتكز الكتاب الجديد على وثائق خاصة بكينان ومصادر أخرى، وهو يكشف حماسة كينان حين كان يبحث عن حلول لتخفيف حدّة الحرب الباردة بعد تحوّلها إلى لعبة عالمية قائمة على سياسة حافة الهاوية العسكرية، فضلاً عن معارضته توسيع حدود حلف الناتو سريعاً نحو الشرق بعد حقبة الحرب الباردة. قبل وقت قصير على وصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى السلطة، توقّع كينان أن تؤجج هذه السياسة المواقف القومية المعادية للغرب في روسيا و"تعيد إحياء أجواء الحرب الباردة".

تتعلّق المسألة الأساسية اليوم بمعرفة مدى إصرار واشنطن على إكمال المواجهة. يتّفق الجمهوريون والديمقراطيون على إطلاق ردّ صارم تجاه الصين لأنهم مقتنعون بأن بكين تخدعهم منذ فترة طويلة. في معظم فترات آخر ربع قرن، كان هذان الحزبان السياسيان الأميركيان يتوقان إلى التواصل مع الصين، لكنهما استنتجا لاحقاً أن قادة البلد لا يهتمون إلا بسرقة الملكية الفكرية وتقوية الاقتصاد الصيني لحرمان الولايات المتحدة من مكانتها كأقوى دولة في العالم. لهذا السبب، عيّن الرئيس الأميركي جو بايدن عدداً كبيراً من مؤيّدي استعمال القوة في فريقه الاستشاري المعنيّ بالملف الصيني، بما في ذلك كيرت كامبيل وراش دوشي.

لكن بعيداً عن هذا الإجماع بين الحزبَين الجمهوري والديمقراطي، لطالما فضّل السياسيون المواجهة على التفاوض، أقلّه منذ أن شوّه رئيس الوزراء البريطاني السابق، نيفيل تشامبرلين، سمعة الاسترضاء في ميونيخ. بموجب السياسات المعتمدة في جميع الحروب، بما في ذلك الحرب الباردة، يستفيد الرؤساء من اتخاذ مواقف تُظهِرهم بصورة قوية وصارمة. تكون منافع هذه المقاربة فورية، فيكسب الرئيس صورة قوية وقيادية ويحصد أعلى نِسَب التأييد، لكن تكون تكاليف هذه السياسة متنوعة وطويلة الأمد، منها تفاقم الاحتباس الحراري بدرجة غير مسبوقة، واحتدام سباق التسلح ببطء وتفكك النظام الدولي بوتيرة أبطأ بعد، وظهور تهديدات مبهمة لكن متزايدة للأوبئة المستقبلية. في المقابل، تكون منافع المقاربة التصالحية والواقعية متنوعة وطويلة الأمد لكنّ تكاليفها فورية: الظهور بصورة ضعيفة ومترددة، وهو موقف لا يحبّذه أي رئيس أميركي، لا سيّما في زمن الحرب.

يُركّز كتاب جديد آخر عن الحرب الباردة على هذه المسائل أيضاً: إنه كتابThe Kennedy Withdrawal: Camelot and the American Commitment to Vietnam (انسحاب كينيدي: كاميلوت والالتزام الأميركي في فيتنام)، بقلم المؤرخ مارك ج. سيلفيرستون من جامعة فيرجينيا. هو يكتب أن الرؤساء قد ينجرّون إلى الصراع حتى لو أدركوا مخاطر المبالغة في ردود الأفعال. يحلّل سيلفيرستون في كتابه واحداً من آخر الشعارات المستمرّة للحرب الباردة: إنها الخرافة القائلة إن الرئيس جون ف. كينيدي كان ليتجنب مستنقع فيتنام لو بقي على قيد الحياة.

لطالما تردّد كينيدي في الانجرار إلى الصراعات التي اعتبرها، حين كان سيناتوراً شاباً، حركات قومية ضد الاستعمار الفرنسي. يكتب سيلفيرستون أن كينيدي كان يخبر زملاءه في مجلس الشيوخ، منذ العام 1954، بأن "أي كمية من المساعدات العسكرية الأميركية تعجز عن هزم عدو متواجد في كل مكان وغير موجود في أي مكان". كذلك كان كينيدي، حتى تاريخ اغتياله، قد تبنّى آراءً أكثر سلاسة في مجال السياسة الخارجية، وكان يبحث عن طرق جديدة لتخفيف التوتر بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. مع ذلك، حافظ كينيدي على صورته كـ"محارب بارد"، وكان يهتمّ بحماية مصداقيته وأبدى استعداده "لدفع أي ثمن، وتحمّل أي أعباء، ومواجهة أي مشقات، ودعم أي أصدقاء، ومعارضة أي خصوم، لضمان صمود الحرية ونجاحها"، كما قال في خطاب تنصيبه. يظن سيلفيرستون أن كينيدي "تابع التحرك انطلاقاً من رؤية عالمية تدعم مبادئ نظرية الدومينو وتعترف بأهمية إثبات قوة الإرادة". يذكر كوستيغليولا بدوره أن كينيدي امتنع عن دعم كينان بسبب تأييد هذا الأخير مبدأ "فك الارتباط".

لكن لا يوافقه محللون آخرون الرأي. يقول المؤرخ فريدريك لوغفول من جامعة "هارفارد"، وهو مؤلف كتاب فائز بجائزة "بوليتزر" بعنوانEmbers of War: The Fall of an Empire and the Making of America’s Vietnam (جمر الحرب: سقوط إمبراطورية وصناعة فيتنام الأميركية)، وكاتب سيرة غير مكتملة ومؤلفة من مجلّدَين عن كينيدي، إن هذا الأخير درس التاريخ بسلاسة أكثر من الرئيس السابق ليندون ب. جونسون وكان يشكّك بنظرية الدومينو. هو يظنّ أن كينيدي كان ليجد الطريقة المناسبة لتقليص الوجود الأميركي في أي حرب لا يمكن الفوز بها. يذكر لوغفول في رسالة إلكترونية: "لا أظن أن الحرب الباردة كانت حتميّة، ولا أظن أن الحرب الأميركية الكبرى في فيتنام كانت حتمية".

لكن ما أهمية هذه التحليلات في الظروف الراهنة؟ يظنّ عدد كبير من صانعي السياسة اليوم أن الصين في عهد شي جين بينغ لا تسعى إلى كسب الوقت تزامناً مع زيادة قوتها في وجه واشنطن استعداداً لضرب تايوان فحسب، بل تحاول بكين بأي ثمن انتزاع مكانة الولايات المتحدة كأقوى دولة في العالم برأي مؤيدي استعمال القوة. كذلك، يعمل شي جين بينغ على دمج اقتصاده الضخم والمتطوّر تكنولوجياً مع الدولة الروسية الغنية بالموارد في محاولة منه لتحقيق هذا الطموح.

قد يكون هذا التحليل صحيحاً. لكن كان لافتاً ألا تقدّم بكين أي مساعدات عسكرية أو اقتصادية كبرى لدعم العدوان الروسي في أوكرانيا رغم دعمها بوتين شفهياً. قد يتبيّن في مرحلة معيّنة أن الشراكة بين الصين وروسيا هي مجرّد علاقة واهية بقدر الشراكة بين الصين والاتحاد السوفياتي في بداية الحرب الباردة. في غضون ذلك، تكثر المخاطر الجدّية التي يطرحها تفضيل إدارة بايدن المواقف الكلامية على بذل جهود ملموسة لتطبيق مقاربة واقعية، أي التفاوض على تسوية مؤقتة مع الصين أو حتى مع روسيا بعد عهد بوتين. مجدّداً، يضطلع حلف الناتو بدور مثير للجدل من دون حصول أي نقاش حقيقي حول هذه التطورات في واشنطن أو عواصم غربية أخرى.

نشأ الناتو في الأصل للتصدي للتهديدات العابرة لـ"شمال الأطلسي"، لكن وسّع الحلف نطاق تركيزه في الصيف الماضي من دون أن يلاحظ الكثيرون ما يفعله، فانتقل إلى تطبيق سياسة احتواء جديدة تجاه الصين. دعا الحلف، خلال القمة التي نظّمها في مدريد، قادة من اليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، ونيوزيلندا، إلى المشاركة للمرة الأولى، ووضع "مفهوم الناتو الاستراتيجي" الجديد الصين على رأس أولوياته، معتبراً طموحات بكين من التحديات المطروحة على "مصالح الغرب وأمنه وقِيَمه".

حتى لو لم يرغب بايدن في اندلاع حرب باردة جديدة، ليس مفاجئاً أن يحمل شي جين بينغ فكرة معاكسة. لكن نظراً إلى المصاعب التي يواجهها الرئيس الصيني بسبب مقاربته الكارثية في ملف كورونا وتعثر اقتصاد بلده، ثمة فرص جديدة لإعادة إحياء التواصل الدبلوماسي اليوم. يقول ميلفين ليفلر، مؤرخ الحرب الباردة في جامعة فيرجينيا: "لا أظن أن شي جين بينغ يعتبر نفسه أو بلده في صراع وجودي مطلق مع الولايات المتحدة بسبب الأنظمة الإيديولوجية المتنافسة. ولا أظن أنه مقتنع بغياب التناغم بين المصالح الأميركية والصينية".

في النهاية، ثمة أمر مؤكد واحد: لن نعرف الحقيقة إلا بعد تجربة الوسائل الدبلوماسية الجدّية. لو كان كينان حياً اليوم، كان ليوافق على هذا التوجّه حتماً.


MISS 3