كيف نقرأ اليوم؟

12 : 40

يبدو أن محبّي الروايات فقدوا اهتمامهم بالقراءة. يتكلم جوزيف بوتوم في ما يلي عن "موت" الرواية بشكلٍ غريب. فهل صحيح أن عالم الرواية بات اليوم لسحره؟ هل ما زلنا ننجذب الى الرواية أو حتى الى القراءة بالمطلق؟



على مر 300 سنة تقريباً، اعتُبِرت الرواية من أهم الفنون، أو ربما كانت الأهم على الإطلاق، في عصر الحداثة. شهد مجال الفنون شكلاً من التجدد خلال المرحلة الانتقالية التي تَلَت العصور الوسطى، مروراً بعصر النهضة والإصلاح، وصولاً إلى الحقبة المعاصرة. يعكس هذا التبدّل على الأرجح فكرة تزداد شيوعاً مفادها أن الحياة العائلية والدراما ظاهرتان واقعيتان وليستا مجرّد نشاطات بسيطة لضمان تلاحم العقل والروح فيما نعيش واقعنا في مسرح الحياة.تتطرق الروايات المعاصرة أحياناً إلى الحياة الشخصية والخاصة بأسلوب غير مسبوق في مختلف أشكال الفنون الماضية. تعود هذه النزعة المعاصرة إلى حقبة الفلسفة العالية، بدءاً من ديكارت مروراً بِروسو وصولاً إلى كانت. كما أنها تمرّ بمبادئ الرأسمالية الاقتصادية التي حللها ماركس وروسكين باعتبارها انعكاساً لانفصال البشر عن العمل الذي يقومون به. يمكننا أن نراجع اللاهوت البروتستانتي الأساسي، من مارتن لوثر إلى جوناثان إدواردز، كي نجد أصل النزعة المعاصرة في ميل الإصلاحيين إلى التركيز بشدة على الروح الفردية من الناحية الدينية. أصبحت الروايات محورية في الثقافات جزئياً لأنها كانت الشكل الفني الوحيد الذي يستطيع ضم جميع التفاصيل التي يريد الكتّاب سردها لرسم صور واقعية متزايدة عن الشخصيات في قصصهم. لكن كانت الروايات في المقام الأول تَصِف أزمة الذات المعاصرة وتطرح الحلول حين تبلغ أعلى مستويات الإتقان والجدّية.

لكن للأسف، لم تعد الرواية تحتل الأهمية الثقافية نفسها اليوم، وما عاد القرّاء يعتبرونها أداة عملية لمعالجة المشاكل. يعكس تراجع امتيازات الرواية أزمة جديدة تشتق من الفشل الفكري المتزايد وتشكيك ثقافتنا الدائم بالتقدم الذي تحرزه.

بدءاً من القرن الثامن عشر ومروراً بالقرن العشرين، أصدر الكتّاب روايات غير مسبوقة في العالم لأن الحضارة فرضت عليهم هذا التوجه وكافأتهم على عملهم أيضاً. لكن لن تكون قراءة الروايات التي نشرها الكتّاب منذ بداية التسعينات إلزامية، ولا يمكن لوم الكاتب بالضرورة على غياب المركزية الثقافية بهذا الشكل، بل إننا لم نعد نقرأ الروايات كما كنا نفعل سابقاً بكل بساطة. لقد تلاشت الطموحات الكبرى وبدأ محرك هذا النوع من الفنون ينفث آخر رواسب موارده القديمة. لم تُحَلّ الأزمة الماورائية الناشئة في الحقبة المعاصرة بفضل الرواية أو أي عامل آخر. نتيجةً لذلك، انشغلنا بأزمة أخرى تعيق مسار الفن، فيما بدأت الثقافة تخسر آفاقها والغايات التي نشأت من أجلها.

لا يعني ذلك أن آخر نصف قرن خلا من محاولات إصدار الروايات المؤثرة. بدءاً من فيديادار نايبول، وماريو فارغاس لوزا، وتوماس بينشون، وفيليب روث، ودون ديليلو (وُلد هؤلاء الكتّاب الخمسة خلال الثلاثينات)، وصولاً إلى جون ماكسويل كوتزي وجون إيرفينغ (وُلدا في بداية الأربعينات)، تمسّك الكتّاب الأكبر سناً بطموحات الرواية الحقيقية. على مر عقود عدة، كان القرّاء المتفانون يتهافتون على قراءة أي عمل جديد لمارتن آميس وسلمان رشدي وكورماك ماكارثي. تطول لائحة الكتّاب الذين يستحقون الإشادة في مجال الروايات المعاصرة، منهم زادي سميث، وهاروكي موراكامي، وأورهان باموق، وأرونداتي روي، وجيفري أوجنيدس.

لكن رغم موهبتهم الكبيرة، لم يستطع أيٌّ منهم أن يضاهي المستوى الذي وصل إليه الكتّاب الإنكليز المؤسسون، بدءاً من دانيال ديفو وصولاً إلى جاين أوستن، ولا أسلوب كبار الأسماء في العصر الفيكتوري، بدءاً من ديكنز وثاكيري وصولاً إلى هنري جيمس، ولا أسلوب المعاصرين من أمثال بروست وجويس وتوماس مان ورالف إليسون، ولا حتى الروائيين في منتصف القرن العشرين، بدءاً من فيتزجيرالد وفولكنر وهامينغواي وصولاً إلى سينكلير لويس وجون ستاينبيك.

قد نتوصل إلى الاستنتاج نفسه عند التعمق بالعصر الذهبي للخيال الشعبي ومقارنته بالحقبة التي نعيش فيها اليوم. يُعتبر نيل غايمان عبقرياً في مجاله، فهو يستكشف الخيال الشعبي في كتب الأطفال والقصص الخيالية في المدن والروايات المصوّرة. أما دين كونتز، فيستعمل الرعب بأسلوب ضمني لطرح أسئلة ماورائية عن سبب انتشار الخيبات في العالم. وتشكّل سلسلة Game of Thrones (صراع العروش) المقتبسة من أعمال جورج رايموند ريتشارد مارتن نموذجاً لبناء عالم الأغنياء في حقبة ما بعد الكاتب الإنكليزي جون رونالد راول تولكين. في المقابل، استعمل جين وولف الخيال العلمي لإطلاق مشروع أدبي امتدّ على أكثر من 30 سنة. لنفكر مثلاً بأنجح كاتبَين منذ أغاثا كريستي، وهما ستيفن كينغ وجي كي رولينغ، ثم لنراجع لائحة الكتّاب والفنانين الذين ساهموا في تطوير الكتب الهزلية وتحويلها إلى روايات مصوّرة، أبرزهم آلن مور وفرانك ميلر، ولا ننسى الكتب الشهيرة Jimmy Corrigan لكريس وير، و Maus لآرت سبيغلمان، و Persepolis لمارجان ساترابي.أمام مواهب هؤلاء الأشخاص، لا مفر من التساؤل عن سبب تركيزهم على نوع الخيال الشعبي. حين ينجح أي كاتب في رفع المستوى الفني لروايات الجريمة أو الكتب الهزلية إلى هذا الحد، من المنطقي أن نتساءل عن السبب الذي يمنعه من كتابة روايات طموحة أو العمل في النوع الفني الذي طوّرته الثقافة على مر ثلاثة قرون تقريباً وحوّلته إلى أداة أدبية مدهشة ومبنية على عوامل السلاسة والقوة والتأثير. يسهل أن نكتشف الجواب على هذه الأسئلة حين نبتعد عن المظاهر السطحية لهذه المسألة.

روبرت هاينلاين ومؤلفاته في مجال الخيال العلمي، وبيلهام غرينفيل وادهاوس وأعماله الكوميدية الرومانسية، وريكس ستاوت وقصصه الغامضة: ما كان أحد من هؤلاء العباقرة ليعترض على الفكرة القائلة إنهم لا يقدمون أعمالاً بمستوى الروائي المعاصر توماس مان الذي فاز بجائزة نوبل. حين نرصد أي جانب نخبوي أو فوقي في الاختلاف بين "الخيال الجدّي" و"الخيال الشعبي"، يسهل أن نستنتج أننا لا نؤمن بقوة الأشكال القديمة من الخيال الجدّي: حتى أفضل كتّاب الأجيال السابقة في هذا المجال، بدءاً من آرثر كونان دويل وصولاً إلى ثيودور سوس، ما كانوا ليفقدوا ثقتهم بهذا النوع الأدبي.لا يعني مفهوم تراجع مستوى الروايات أن القرون الماضية شهدت ظهور كتّاب أكثر عبقرية أو أن العباقرة اليوم يهدرون طاقاتهم في الفنون الشعبية. بل كانت الرواية المعاصرة تهدف بشكلٍ أساسي إلى تجديد انبهارنا بالعالم عن طريق قصص خيالية تحرص على مقارنة الرحلات الروحية المقدسة بالرحلات المادية والاجتماعية التي يخوضها الجسد. كان هذا التوجّه يرمي إلى تجديد التلاحم بين الوقائع الداخلية والخارجية بعدما عمد العصر الحديث إلى الفصل بينها. وفيما تتعثر الثقافة الغربية على طول هذا المسار وتفقد ثقتها بالقدرة على حل مشاكل الحداثة، يخسر المشروع القديم جزءاً من واقعيّته.

باختصار، الرواية لم تخذلنا، بل نحن من خذل الرواية!


MISS 3