جيمي الزاخم

وثائقيّات الحرائق الكبرى: الصورةُ تُخلّدُ النار

8 آب 2023

02 : 00

تغلي ماءُ الطقس في كوز الكرة الأرضية. هي ليست غيمة تمّوزية عابرة. أخبارها تنزح، موسميّاً، من ختام النشرات الإخبارية. فتحتلّ الصدارةَ على هواء إعلاميّ يلفح الحرائق والتغيّر المناخيّ الذي يعدُنا بلعبة أخطر وأعقد. افتُتح موسمُ الحرائق من كاليفورنيا إلى الصين. الأمم المتّحدة حذّرت. حكومات كثيرة تأهَّبَتْ. منظّمات دولية بيئيّة أنذَرَت. وبعد كل تحذير وتأهّب، كوارثُ وجرائم بيئيّة. يرتكبُها غبيٌّ أو ذكيّ. ويُدّعى في أغلبها، أمام قوس الرأي العامّ، على «السّيد القدَر المحترَم». وبعد كل كارثة بيئية، جردات عن الخسارات البشرية المادية البيئية الإنسانية. مناطق متعدّدة في كلّ القارّات تلسعُها النار. تتغيّر. تتألّم وربما لا تتأقلم. وفي عصر الصورة، التوثيقُ ضرورة. انبعث الدخان الأسود من كاميرات المنصّات والشاشات. وثّقت حكايات عن غاباتٍ من رماد، ودموعٍ من نار في بقاعٍ تُشيَعُ أسماؤها إلى وجع التاريخ بصحبة الجثث المحترقة. يلتقط قلمُنا اليوم صوراً متفرّقة من بعض هذه الوثائقيات.

نبدأ مع وثائقي Burning. تُرجعنا منصة Amazon إلى صيف أستراليا الأسود عام 2019. واحدٌ من سلسلة أعوام سجّلت المعدّلَ الأكثر سخونة وجفافاً في البلاد. الدراسات المحلّية قدّرت أن الحرائق الكبيرة تتكرّر مرة كل 10 سنوات. ولكن بعد حريق 1997 الخطير، تسارعت الوتيرة. بتجاعيده ونبرته وخبرته التي تجاوزت 65 عاماً، يشهد عامل إطفاء أن حريق 2019 هو الأسوأ. حوصر سكان منطقتي Victoria وNewSouthWales: لا مياه، لا اتّصالات ولا كهرباء. وقفوا وجهاً لوجه مع عدوّ يصفونه بالتنين. صوت النار أعلى من صوت دموعهم. لا يسمعون بعضهم. يتحاورون بالإشارات. ينظرون باتجاه شمس غادرتهم. ليسوا متيقّنين أنّ عيونهم ستبصرها مرة أخرى. طيور الببغاء تتساقط مشتعلةً من السماء لتنضمّ إلى لائحة من 3 مليارات حيوان قضت عليها ألسنة الحريق. مشاهد وأرقام كأنها من أفلام الرعب: الظلام الحالك يسيطر. الوقت ليس ليلاً. إنّها التاسعة صباحاً!

الدخان المنبعث وصل إلى سيدني وغطّاها. إحدى قاطنات المدينة كانت حاملاً بابنتها. أصابتها الانبعاثات بضيق تنفّسٍ سرّع الولادة. هي مثال عن عشرات أو ربما آلاف الأمهات اللواتي وُلد أولادهنّ مع مشاكل صحيّة ناتجة عن انبعاثات الحرائق الكبرى. يصرّح متخصّصٌ أنّ الخبراء قدّروا احتراق 5% من مساحة الغابات. لكن النتيجة كانت 21%... انتهى الكابوس مرحليّاً. عانق السكان بعضهم. لا للشعور بالدفء، بل لعلّهم يبرّدون نارهم وأوجاعهم بعد حرب قاهرة قضت على 59 مليون فدان من غابات أستراليا (10 أضعاف مساحة الحرائق السابقة).

الوثائقي الأميركي Bring Your own Brigade يتوغّل في غابات كاليفورنيا التي شهدت حرائق خطيرة عام 2018. تخرج الكاميرا من نفق الأسمنت لتدخل إلى نفق من دخان وسواد. تتسلّل عواطفُنا إلى المنازل، تعانق بِذْلات المسعفين، تهرول وراء الهاربين وسط الهرج والخوف. يتجمّعون في بيوت تحوّلت إلى مراكز إيواء للإنسان والحيوان. تحرّك المخرجة مشاهدَ صامتة. سيارة مركونة أمام منزل مشتعل. تنتظر دورَها في طابور الاختناق والموت. صناديق البريد محترقة مغلقة. كأنّها أكفان رسائل الحبّ والحياة. يقدّم كلُّ مشارك في الوثائقي برهانَه عن سبب الحريق. يتحدّث بعضهم عن مخيّم صناعي قريب من مكان الاشتعال. يلوم آخرون شركة الكهرباء: برقٌ ساطع سبقَ الاشتعال في مناطق مصنّفة بأنها خطرة. رغم ذلك، 40 إلى 50% من المساكن الجديدة في كاليفورنيا بُنيت ضمن هذا الحزام، خلال السنوات العشرين الماضية.



مشهد وثائقيّ



ومن حرائق كاليفورنيا أيضاً، تعرض «نتفلكس» سلسلةً وثائقيةً بعنوان Fire Chasers من أربع حلقات عن يوميات رجال الإطفاء عام 2016. يخوضون حرباً مع نارهم الداخلية والخارجية. لا يستسلمون في حلبة صراع يستمرّ ويتفاقم. الحرائق المتجدّدة المتوسّعة خلقت حاجة لعدد أكبر من الإطفائيين. فُتحت أبواب السجون الإصلاحية. خرجت منها نساء إلى مخيّمات تدريب مكثّف. أيديهنّ تطفئ وتحمي. النار فرصة لتطهير وتطوير الذات. تتجوّل الكاميرا بين قطع محترقة تحوّلت إلى تحف في معارضَ تُعلَّق على جدرانها صور فوتوغرافية فنية لمشاهد الدخان والخراب. تتوَّجُ الذاكرة بصولجان من نار. فتخرج اللحظة من جماد الخبر الإعلاميّ وموته المحتّم.

يخاطب وثائقي قناة الشرق «الحرائق الكبرى» النارَ كعِلْم مع باحثين في فيزياء الحرائق. في مختبرات معدودة في العالم، يدرس هؤلاء سلوكيات النار. يحاولون وضع نماذج تساعد على التنبؤ بسلوكها. للحرائق أنواع، ولكل نوع مظاهر ونتائج واستراتيجية. الحرائق الكبرى تشهد، وفق العلماء، تغييراً في نظامها الناريّ: أي في الموسمية، التواتر، المدى والشدة. القاذفات المائية عامل أساسي في عمليات الإخماد. نذهب إلى أطراف مارسيليا الفرنسية، حيث تتدرّب هذه القاذفات منذ أربعين عاماً في منطقة اعتُبرت الحلقة الأولى من مسلسل حرائق أوروبا الكبرى. علميّاً أيضاً، يشرح الوثائقي أسباب ازدياد سرعة الرياح خلال الحرائق: خلال حريق أستراليا ازدادت سرعتها من 5 إلى 105 كيلومترات/ الساعة. ندور حول مبانٍ وأشجار تتلقى صفعات من الإنسان، النار والهواء. تتحوّل شموعاً سوداء. وكل شمعة هي دعمةٌ تكوي أرضاً مهترئة تنتظر الأسوأ!


MISS 3