جيمي الزاخم

"موتٌ متواصل": ما يفرّقهُ الموت تجمعه الكلمة

1 أيلول 2023

02 : 05

طَوّبَ يرق الروايةَ «كلمة رحمة»

بعد ستّ سنوات على وفاتها، تعود جورجات يرق لتروي معاناتها مع مرض السكّري طيلة خمسين سنة. قضت 13 منها فاقدةً البصر. شقيقُها الكاتب اللبناني جورج يرق يخلّد، بإبرة قلمه، يوميّاتِ دمعها ودمها بين إبر الإنسولين. يجمعها في رواية «موت متواصل». تُباع نسخُها حصريّاً في مراكز حملة «كتاب وقمح» غير الرّبحية. في زوايا مقاهٍ ومتاجر، على رفوف مكتبات وصيدليّاتٍ، كتبٌ بسعر رمزي تُنعش الكتاب والإنسان. انضمّت جورجات إليها كَراوية. تحيا وتحيي. طوّب جورج يرق الرواية «كلمة رحمة». خصّص إيرادات مبيعها لمساعدة مرضى السرطان والفشل الكلويّ.



من "ميتات صغيرة كانت تمريناً على الميتة الكبرى"، يرمّم يرق حجارة المنزل الأبلحيّ. بعفويّة لسان جورجات وبساطة كلماتها، يجمع عائلة فرّقها الموت، الغربة والحرب. يعانق حقيبةَ المستشفى التي بردت يدُها، وساعةَ يد-أهدتْها رئيسةُ دير لجورجات- تدور وحيدةً حول نفسها خائفةً من أن تلدغها عقاربُ النسيان. يلفّ مسبحةَ أمّه حول عنق أصابع شقيقته المبتورة. يكرّسها ذخيرةَ اعتراف واقعيّ. ينطلق بلا قفازات من قلب العائلة. يحمل جورج الجرح كأنه يحمل كاميرا. يرسم البيت بزواياه، بصور القدّيسين، ماكينة الخياطة، المرحاض، السقف... ينمّق المدرسة، السيارة، الطريق. فتتشكّل العناصر الاجتماعية المادّية في إطارٍ زمنيّ وجغرافي. تتحرّك جورجات وسطه. تدور في فنجان مرّ تجرّعتْه مع مناجاة بلا مطوّلات، بين الأمل واليأس، والخوف والفرح، والحسرة والامتنان. شربنا مع جورجات شرابَ توت عاطفيّاً. دخلنا إلى دراما فرديّة لوضعٍ نفسيّ بقيت بضعُ شراراته مُخمَدة. توهّجت مع أحلام يقظة سيطرت على يوميّاتها. كانت المهرب للإشباع بسيناريوات الواقع الرديف، كآليّة دفاع واستمرار.

الناحية الاجتماعية فاقمت الناحية النفسية. بعد فقدانها البصر، كان المنزل سجنها «الاختياري». قرّرت الانعزال والاكتفاء بأشخاص «صادقين»، بعيدين من كلمات الشفقة. فالمرض، في الموروث الاجتماعي، هو «عيب ونقص». جزء من المجتمع هو معيق. أفراد العائلة، بمساحات مختلفة، هم المعين. كانت أكثر ثقة وهي تعرّفنا إلى تكوينها الفكريّ. حوّلت أُذنَيها إلى عينين. رأت الأصوات وجوهاً. من قراءات جورج على صوت مرتفع، وأثير الراديو، كوّنت ثقافةً متنوّعة عن عالم واسع لم تتعرّف إليه إلا من فوهة مرضها.

بلهفتها ولهفتنا، انتظرنا عودةَ العمّة الراهبة لإجراء العمليّة. تَحسَّسْنا جسدَنا مع كل ألم والتهاب وارتفاع حرارة. عشنا حقيقةَ تفاصيل تفاوتَتْ في مستوى انخفاضها عن سطح الورق وصولاً إلى العمق الوصفيّ الإنسانيّ. تَحسَّرْنا معها أمام مشهد البطيخ الأحمر الممنوعة عنه. لكن اشتهينا لو أسهب السرد بتفصيص البزر الأسود في دواخلها أكثر. لم نصلْ إلى باطن جورجات الأنثى، بعيداً عن المرآة وطلاء الأظافر ووسامة الأطبّاء. ربّما تعمّدت ذلك. لا تريد جَرَّنا إلى المأساة أكثر. تغلّف بيتَها ووجعَها وقلبها. بزَغَت مقاوِمةً. تُكابِر. لا تُظهر ضعفها إلّا في حال عدم قدرتها على تحمّل عجزٍ عضويّ اجتماعي انحسر بعد عودة البصر إلى عينَيها والهدنة إلى أيامها. في الأربعين، التورّم بتَر أصابعَ قدمها، وصولاً إلى غسيل الكلى الذي أنهك رحلةً بات النومُ خلالها «نعمة». المقاوِمة صارت أيضاً مستسلمة بعد أن حاولت تسلّقَ هرم Maslow والحياة، لتَبني قمّتها الخاصة. قمّةٌ لم تختبر الثباتَ طيلة صفحات السّرد الذي قفز، في الثلثِ الأخير، من زمن الراديو إلى عصر الكومبيوتر والإنترنت. قبله، كان مرضُها والحياة والتقنيات ثابتةً إلى حدّ ما. المرض أصبح يتجوّل. العالم التكنولوجيّ كما وضعها الصحي يتبدّل بسرعة. الثابت الوحيد هو دعمُ أمّ تقبّل، عبر الهواء، تمثالَ سيدة حريصا بإيمان يسلّم ويقتنع. وفي المشهد نفسه، جورجات تنظر إلى البحر بأمواجِه المتحرّكة غيرِ المستقرّة كحالتها وكمناجاتها التي تحوّلت من الاستفسار، العتب، الحبّ، إلى طلب واحد لم يتحقّق: الموت في غرفتها في أبلح.

أبلح حضرت بعاداتها، أحداثها الاجتماعية، السياسية والحزبية. جزءٌ من تاريخ ومن وطن مُقسَّم مُتعَب، عاشه جورج على المنابر، بين الكتب، القذائف والأشلاء، في طوابير معاملات الاستشفاء. هو الذي لملم شخصيّاته في روايَتَيْه السّابقتين، من متاريس المواجهة مع الحرب، الوقت والحياة. يُمسك اليوم بيد شقيقته لتبصم معه على ذاكرة شخصية جماعيّة. تَزوَّدا بملح الأرض في رحلتهما مع صفحات تكرّرت أخطاءٌ طباعيّة على متنها. اعتاد يرق أن يقطفَ من لحمِ الوجع والواقع. يَلحَق مجرى الدّمع والشخص. لا يخترع بحراً، ولا ينتظر مطراً. حوّل جورجات وشرايينَها الرّفيعة إلى شرائطَ بيضاء. نشر عليها رسالتَه مبتعداً عن الشّعرية والرمزية: «عصا الأمل لا أتوانى عن بسطها لإنقاذ غريق أو تقديمها إلى ضرير شاء اجتيازَ الطريق».

ما كتبه يرق رسالة للمرضى. وما فعله مع حملة «كتاب وقمح» رسالة لقومٍ من نوع آخر. هو لم يجد أغلى من كلمته وأمّه ودمعته ليطبع اسماً متواصلاً لصورة لا تيبس ورقة نعوتِها. تحلّقت «أم جورج» حول جورجات طيلة السرد. الإهداء كان لأمّ انتهى السردُ معها في آخر صفحة. مع صفحات الكتاب، قرأت الأم قلبَها المؤمن، الذي يخبّئ المعجمَ الأكثر مرارةً ووجعاً. في أرجاء المنزل، تنقّلت الروايةُ معها. نادت ابنتَها إلى المطبخ. تعاونتا بفرم باقات البقدونس التي تحوّلت، بحَضْرةِ جورجات ودمعةِ ديبة، إلى نجومٍ من حبق.



يُطبعُ اسمٌ متواصل لصورة لا تيبس ورقة نعوتها





MISS 3