شربل داغر

وردة لرامبو وفان كوخ

11 كانون الأول 2023

02 : 00

لا ينقضي أسبوع من دون أن أقع على أخبار عن الشاعر الفرنسي أرتور رامبو (1854-1891)، وعن المصوّر الهولندي فنسنت فان كوخ (1853-1890)، كما لو أنهما مبدعان معاصران، فيما عاشا حياة بائسة، مغمورَين، في العقود عينها. هذا ما يجعلني أفكر في ما يفعل بهما القادرون مالاً ونفوذاً، أي في استغلال صورتيهما السائحتين في العالم.

المظلومان في زمنهما يصبحان اليوم «شهيرين»، وموضع احتفاء وتقدير، كما لو أن الدهر يصلح ما أفسده الزمان.

هذا ما عايشتُه منذ سنوات بعيدة، عندما زرتُ مدينة الشاعر، شارلفيل-ميزيير (شمال فرنسا)، ومتحفه ومقبرته، والتي انتهيتُ، في ختامها، إلى كتابة كتابي: «رامبو: العابر الهائل بنعال من ريح».

وهذا ما عرفتُه بعد ذلك مع المصور فان كوخ، عندما زرتُ مقر إقامته الأخير في اوفير-سير-واز، في ضاحية باريس، بعد أن تعرّفتُ، في متاحف مختلفة، بين باريس وشيكاغو وواشنطن وغيرها، على لوحاته، وكتبتُ عن فنه.

ما يستوقفنا في حياة هذين المبدعين هو أنه كانت لهما بعد وفاتهما حياة مشعة وحتى اليوم.

رامبو بات نجماً شهيراً، وتباع مسودات بعض قصائده في مزادات عالمية، مثل الموعد القريب لبيع قصيدته : «الخلود» ابتداءً من 300 ألف يورو.

هذا ما لم يعرفه الشاعر «الملعون» في حياته، إذ عرف التشرّد، والفندق الرخيص في لندن، ولم ينتبه إليه أحد غير قلّة من الشعراء. بل أكثر من ذلك : مجموعته الشعرية الأشهر : «فصل في الجحيم»، لم تُعرف إلا بعد وفاته، مرمية، منسية، في مستودعِ ناشرٍ في بلجيكا. من دون هذا الكشف بالصدفة لم يكن هناك أي أثر لهذا الكاتب وقصائده. وهو ما جعل رامبو، وهو في ريعان الشباب، يتخلّى عن الشعر ويمضي إلى التجارة في مجاهل أفريقيا، قبل أن يُنهي حياته في حالة بائسة في مستشفى بمرسيليا بعد رحلة شاقة محمولاً فوق حمالة طوال أسابيع.

أما حياة فان كوخ فلم تكن أكثر سعادةً، بل أكثر إيلاماً. فهو لم يتوصل الى بيع أي لوحة في حياته، مع أن أخاه، تيو، تاجر الفن، فعل الكثير من المشروعات لتسويق فنه، من دون أن يفلح في ذلك. لم يبع فان كوخ غير لوحة وحيدة في حياته، بل أهداها وحسب للطبيب غاشيه، الذي رعاه في مرضه وفي سنواته الأخيرة.

لوحات فان كوخ تساوي، اليوم، بمجموعها أكثر من عدة مليارات من الدولار.

لم يحصل رامبو، ولا فان كوخ، على شيء من هذا كله في حياتهما البائسة والظالمة: هل يصلح الزمن ما أفسده الدهر؟

ما أريد أن أنتهي إليه هو الفكرة التالية: القصيدة هي نحن، اللوحة هي نحن، بقدر ما نحيط بها، ونجد فيها ما يعجبنا، مثل وسيط بين ذائقتنا وما يقترح الشاعر أو المصور.

أهذا يعني أن في الدنيا عدلاً ولو متأخراً؟ أتساءل وأبقى متشككاً في الجواب.

أياً يكن الجواب، فما عناني ويعنيني، هو أنني أكتب، اليوم، كما لو أنني أقف بالصف مع غيري، كما فعلتُ قبل سنوات، لكي أضع وردة فوق مقبرة كلّ منهما.


MISS 3