حسان الزين

كتاب عن "التلفزيونات والمصارف" وتأثّر اللبنانيين

محمد بركات: من أطفأ ثورة 17 تشرين؟

16 كانون الأول 2023

02 : 03

محمد بركات: عملت ثلاث سنوات في بحثي الأكاديمي

كتاب «التلفزيونات والمصارف: هل أطفأت ثورة 17 تشرين؟» لمحمد بركات (دار النهار للنشر) إشكالي. موضوعه الشائك الساخن يتناوله اللبنانيون من ألف زاوية وزاوية، ولهم فيه وجهات نظر مختلفة ومتناقضة. وللمؤلّف رأي يستنفر لدعمه وإثبات صوابيّته عدّة أكاديمية ومراجع وأبحاثا متخصّصة بالتلفزيون والإعلام وبالجماهير وبالسياسة. وإذ يُضيف إلى هذه استطلاعاتٍ بشأن موضوعه ومقابلاتٍ خاصّة، يتسلّح بـ «الاعتراض». هكذا يقدّم بحثاً أكاديمياً يفسح المجال للنقاش والبحث في شأن تأثير التلفزيونات على اللبنانيين، ودورها مع المصارف في «إطفاء» الثورة. وكذلك في شأن الثورة التي وإن كان الكتاب لا يبحث فيها إلا أنها تبدو حالة تأثر بالتلفزيون أكثر مما هي حركة شعبية سياسية. مع بركات هذا الحوار:



تسأل: «هل أطفأت التلفزيونات والمصارف ثورة 17 تشرين؟»، فما هي الخلاصات التي توصّلت إليها؟

الدراسة أخذت منّي نحو ثلاث سنوات من العمل. وهي استندت إلى تحليل مضمون 80 ساعة تلفزيونية، بين نشرات أخبار وبرامج حوارية وبثّ مباشر، خلال أشهر كانون الأوّل 2019 وكانون الثاني وشباط وآذار ونيسان 2020. تمّ تفريغ نصف مليون كلمة حرفياً، ودراستها وتحليلها، ومقارنتها ومقاطعتها مع مقابلات مع مالكي التلفزيونات ومديري الأخبار والبرامج السياسية ومراسلين والمسؤولين عن الإعلانات، ومسؤولين آخرين. وكان الهدف مراقبة «ترتيب الأجندة» Agenda Setting، أي ترتيب الأخبار وتوزيعها في نشرات الأخبار، وكيفية اختيار الضيوف في البرامج الحوارية، وكيفية طرح الأسئلة والوقت المخصّص لكلّ ضيف، وغيرها من المعايير التي سمحت باستنتاج «أجندة» كلّ شاشة.

على سبيل المثال، كانت الصور الأولى التي نقلت ليل 17 تشرين الأوّل 2019 من وسط بيروت، شرارة نزول العشرات ولاحقاً المئات في ضواحي بيروت، من المشرفية والرحاب على أبواب ضاحية بيروت الجنوبية، إلى جل الديب شمالاً. فتأثير الصورة، والتحميس الذي تمارسه الشاشة، يدفع المشاهدين إلى اتخاذ قرارات تبدو كما لو أنّها سحرية. ويقرّر العشرات، في لحظة واحدة، أن يغادروا بيوتهم ويتوجّهوا إلى الشوارع. حصل هذا على شكل أوسع خلال ما عُرِفَ بـ»الربيع العربي»، قبل أن ينقلب خريفاً وشتاءً قاسياً. فصورة محمد البوعزيزي يحرق نفسه في تونس، كانت وراء احتراق أنظمة عربية عديدة، من تونس إلى ليبيا ومصر، وصولاً إلى سوريا وغيرها.

تأثير الدومينو تلفزيوني بامتياز. وهذا كان أبرز خصائص ثورة 17 تشرين. على سبيل المثال، كانت الأحزاب الطائفية هي من صنع يوم 14 آذار 2005، بالتحشيد والتمويل والنقليات، إلى جانب التلفزيونات والجرائد والإذاعات. أما في 17 تشرين فكان التلفزيون، وحدَه بلا منازع. وكان المتظاهرون ينزلون إلى أماكن الكاميرات. وحين يتعذّر وصول الكاميرا، يصوّرون أنفسهم ويرسلون الفيديوات إلى المراسلين والمنتجين التلفزيونيين ليعرضوا على شاشات التلفزيون ما جرى. كانت الكاميرا هي الإثبات على حصول الاعتصام والدليل على «الثورة».

هكذا، مثلاً، رأينا مدمني الكاميرات وهم يتنقّلون من شاشة إلى أخرى في الساحة نفسها. وبلا إطالة. فإنّ هذه الكاميرات كان لها الدور الأكبر في أن يقرّر الناس النزول إلى الشارع، أو عدم المشاركة. وهذا موثّق في إحصاءات واستطلاعات رأي أجريت خلال أشهر الثورة، ومنشورة في الكتاب وتشكّل الأساس الصلب له.

من الخلاصات الضرورية أنّ كلّ شاشة كان لها تأثير على طائفة أو منطقة، أكثر من الشاشات الأخرى. أحياناً، كان التأثير سلبياً، بمعنى أنّ «LBC» مثلاً زرعت الشكوك في المسيحيين الذين شاهدوها كمصدر أوّل للمعلومات، فلم يشارك ثلث المُستطلَعين من مشاهديها، وأحياناً كان التأثير إيجابياً، كما حين دفعت «الجديد» المشاهدين الشيعة إلى المشاركة في التظاهرات، و»MTV» دفعت المسيحيين إلى المشاركة بكثافة.

هذه عيّنة عن النتائج التي خرجت بها الدراسة. وهي لا تستند إلى رأي الباحث، بل إلى الأرقام والمقابلات والمشاهدات الموثّقة.






هل ينطبق ما أجريته وما توصّلت إليه في شأن «إطفاء» الثورة على انطلاقتها، أي هل التلفزيونات أشعلتها؟

بالتأكيد. التلفزيونات شاركت في «صناعة» الثورة في المقام الأوّل. أليست مفارقة أنّ الجوع والفقر في لبنان ارتفعا في السنوات الأربع التي تلت الثورة، من 20 إلى 80% بين اللبنانيين، في حين لم يعد هناك أحدٌ في الشارع؟ الأهمّ أنّ «ثورة 17 تشرين» كانت تلفزيونية بامتياز. فهي وُلِدَت على الشاشة، وماتت داخلها. ليس أدلّ على ذلك من شهادات مالكي الشاشات اللبنانية الثلاث، «MTV» و»LBC» و»الجديد»، ومديري تحرير نشراتها الإخبارية والقيّمين على برامجها السياسية. فهم، بحكم شهادتهم على أيّام الثورة الأولى، ومراحل تشييعها، يثبتون، من خلال الكتاب، أنّهم كانوا أبرز المساهمين في «صناعة» هذه الثورة، واستمراريتها.

تنقل عن إحدى مديرات التلفزيونات التي فوجئت باندلاع الثورة أنه بعد انتهاء نشرة الأخبار والبث المباشر من وسط بيروت حيث انطلقت الشرارة، نزل كثيرون إلى الشارع. هل تعتبر أن هؤلاء توجهوا إلى الشارع تأثراً بالتلفزيونات أم أنهم عرفوا بشأن التظاهرات (أي تأثروا أم عرفوا)؟

لا أرى فارقاً بين «تأثّروا» و»عرفوا». فهم تأثّروا لأنّهم عرفوا. ما كان التأثير ممكناً لولا المعرفة. وهذا جوهر الرسالة الإعلامية: النقل، والتواصل، والتأثير. وفي مكان ما: «الرسالة هي الرسول» Le message, c›est le médium. والتلفزيونات كانت هي الرسالة والرسول. لا يمكن أن نميّز بينهما.

هل برأيك التلفزيونات تعرف بقدراتها على التأثير؟

تعرف بالطبع. لكنّها لا تعرف مدى تأثيرها على مستقبل البلاد وأهل البلاد. هذا الكتاب هو وثيقة واحدة من أهدافها أن تكون بين أيدي صنّاع التلفزيون، ليعرفوا حجم التأثير الذي يتركونه في نفوس المشاهدين، الذين من خلال التكتيكات داخل «مطابخ التحرير» التلفزيونية يقرّرون ما اذا كانوا سيتظاهرون أو يبقون في منازلهم، خصوصاً في فترة «ثورة 17 تشرين»، حين كانت الأحزاب والسياسيون في منازلهم، تحت وقع الصدمة، وكانت الأشكال القديمة من أدوات التحشيد والتعبئة «تشاهد» ما يجري. بالطبع، قبل أن يقرّر هذا الحزب أو ذاك أن يتوجّه إلى الشارع ويشارك في «تأديب» الثوّار، وقبل أن تبدأ الضغوط السياسية والمالية على المالكين والمديرين والمراسلين والمذيعين... وصولاً إلى خاتمة الكتاب.





كأنك تبالغ في دور القنوات التلفزيونية في الثورة وانطفائها، في حين لا تمنح العوامل السياسية والاقتصادية أهمية في البحث وفي الدور، ما تعليقك؟

في هذه الثورة كان دور التلفزيونات مهولاً وهائلاً. الأرقام لا تكذب. والكتاب علميّ أكاديميّ، بلغة صحافية. العوامل السياسية والاقتصادية تفاقمت كثيراً، ومن ثاروا اعتراضاً على 6 دولارات، أي 9 آلاف ليرة، في 17 تشرين الأوّل 2019، خسروا بعدها جنى أعمارهم في المصارف، و95% من القيمة الشرائية لرواتبهم، ووظائفهم وشركاتهم، وعشرات الآلاف منهم هاجروا أو جاعوا أو ناموا بلا دواء أو ماتوا بسبب نقص الأدوية والعجز عن زيارة الطبيب أو عدم دخول المستشفى، وبردوا شتاءً وعانوا قيظ الصيف بلا كهرباء... لكنّهم طلّقوا الشارع. هذا ليس تفصيلاً.

في لحظة ما من القراءة، ولا سيما عندما تعرض أجوبة إدارات التلفزيونات وهي تقول عكس ما تقوله أنت، أي إنها لم تتآمر ولم تنسّق في ما بينها، شعرتُ بأنك مصرٌّ على إثبات نظريتك (أجندة التلفزيونات - المصارف)، فتجاوزتَ تلك الإجابات، ولم تحلّلها، ولم تقل إذا كنت مقتنعاً بها أم لا، وأصررت على نظريتك... هل يمكن أن تفسر ذلك؟ هل يمكنك أن تبدّد ما خرجتُ أنا به بأنّك أدرتَ أذن الجرّة في الجهة التي تريد؟

لهم أن يقولوا ما أرادوا، وأن يرووا وجهة نظرهم، وحكايتهم. لهم حقّ الردّ. لكنّ الأرقام وتحليل مضمون نشراتهم الإخبارية وتغيير «ترتيب الأولويات» فيها، وتغيير الضيوف في البرامج الحوارية، وطريقة طرح الأسئلة على المتظاهرين وعلى الضيوف في الاستديوات... هذه كلّها «وقائع»، وليست «وجهات نظر».

لقد غيّر بعضهم سياساتهم التحريرية، وهذا أثّر على قرارات الناس في المشاركة أو البقاء في المنزل. هناك أسباب أخرى بالطبع، منها الاعتداءات من جماهير طائفية على المتظاهرين في الشارع. لكنّ الكتاب يناقش حصراً تأثير التلفزيونات على قرار المشاركة في الثورة من عدمها.

الثوار والكاميرا والإختلاف بين الشاشات

على الرغم من أن كتاب بركات عن «التلفزيونات والمصارف» و»هل أطفأت ثورة 17 تشرين؟»، وليس عن الثورة، لكنه ينطلق من عبارة: «حين أطفأنا الكاميرات... عادوا إلى بيوتهم» التي تبدو حكماً على الثورة والمشاركين فيها. فما تفسير ذلك، علماً أن بركات يعتبر 17 تشرين الأول 2019 يوماً مجيداً في تاريخ لبنان؟

يعلل بركات ذلك بالقول: «ربما أخذتني الحماسة في تمجيد هذا النهار. لكنّها حماسة مسموح بها لدى الباحثين. في النهاية، البحث ينطلق من فرضية ونظرية لدى الباحث، عليه أن يثبتها. ولا يمكن العمل ثلاث سنوات في إجراء بحث وكتابته، من دون شغف ما بجدوى العمل وهدفه النهائي، وضرورته».

ولماذا يغيب من الكتاب صوت الثورة ولا يسأل أحداً من المشاركين فيها عن العلاقة بالتلفزيونات وتأثيرها؟ يتحفّظ بركات على ذلك، معتبراً أن «البحث مليء بأصوات المتظاهرين. الإحصاءات واستطلاعات الرأي كلّها أجريت مع الثوّار. ومعظم المُستطلّعين هم من الثوار الذين شاركوا. هؤلاء هم الثورة، وليس أسماء العلم التي تسابقت على الشاشات».

وكيف هو أداء كل شاشة من التلفزيونات الثلاثة التي اقتصر البحث عليها «MTV» و»LBC» و»الجديد»؟ يجيب بركات: «بحسب الأرقام والاستطلاعات، فإنّ «MTV» كانت «ظهر» الثورة وداعمها بلا نقاش. وهي التي ظلّت تنقل أخبارها وتعطيها الأولوية في «ترتيب الأولويات» Agenda Setting حتى الأيام الأخيرة. في حين كانت «الجديد» إلى جانب الثورة، لكنّها أعطت فرصة لحكومة حسّان دياب. أما «LBC» فكان موقفها أنّها ليست معنية بـ»دعم الثورة»، بل بعرض وجهة نظر الثوّار ووجهة نظر الفريق الآخر».

ويلفت بركات إلى أن «التلفزيون ما زال المصدر الأول للمعلومات بالنسبة إلى اللبنانيين في أوقات الأزمات. مواقع التواصل الاجتماعي تأتي خلفه وتنهل منه. وهذا موثّق في استطلاع أنجزته شركة «Statistics Lebanon»، في كانون الأوّل 2019، على عينة من 1200 لبناني من كلّ المناطق والطوائف.




MISS 3