جان ماري غينوا

الدكتورة فلورانس بيرجو بلاكلر: بدأت حقبة عولمة الصراع العربي - الإسرائيلي

29 كانون الأول 2023

المصدر: Le Figaro

02 : 00

مسجد باريس الكبير

فلورانس بيرجو بلاكلر دكتورة في علم الإنسان، ورئيسة قسم الأبحاث في مجموعة «المجتمعات والأديان والعلمانية» في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا في فرنسا، ومؤلفة كتاب Le Frérisme et ses réseaux: L'Enquête (جماعة الإخوان وشبكاتها: تحقيق). أجري هذا اللقاء معها حول المسلمين ووضعهم في فرنسا بعد هجوم حركة «حماس» ضدّ اسرائيل.



لماذا تتابعين عن قرب خطابات مسجد باريس الكبير منذ هجوم حركة «حماس» ضد إسرائيل في 7 تشرين الأول؟

أنا أدرس الإسلام في فرنسا منذ سنوات عدة. لطالما كان مسجد باريس يتحاور مع الجمهورية ومكتب الطوائف. في ظل غياب رجال الدين المسلمين، يُعتبر هذا المسجد ممثّلاً معتدلاً للإسلام في فرنسا، وهذا ما يجعله يشارك في احتفالات روتينية واجتماعات دينية مشتركة لدعم السلام منذ سنوات، فيؤكد بذلك سلامة الوضع رغم الاضطرابات المحيطة بالإسلام. لكن خلال المرحلة التي تلت هجوم 7 تشرين الأول، لاحظنا أن عميد المسجد شمس الدين حفيظ اتخذ موقفاً متحفظاً على مستوى دعم المجتمع اليهودي، فهو أوضح أمام الحاخام كورسيا من جهة أن الانتماء إلى الإسلام لا يمكن أن يتزامن مع معاداة السامية، ووجّه إلى جماعته من جهة أخرى رسالة عدائية جداً تجاه إسرائيل، فوضع ردّها على الهجوم في خانة الإبادة الجماعية. ثم رفض المشاركة في تظاهرة كبرى ضد معاداة السامية، في 12 تشرين الثاني. أما إمام مسجد باريس، عبد العلي مأمون، فلم يجد شيئاً أفضل من التشكيك بالزيادة الهائلة في الحوادث المعادية للسامية التي ذكرتها وزارة الداخلية. لم تكن مواقف مؤسسات أخرى على صلة بالإسلام في فرنسا أفضل حالاً، بما في ذلك منتدى الإسلام الفرنسي، والمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، والمعهد الإسلامي في فرنسا. لكنّ الحضور الإعلامي لمسجد باريس يؤثر بشدة على تلك المؤسسة التاريخية التي خسرت جزءاً كبيراً من مصداقيتها. فضّل الحاخام كورسيا الوقوف إلى جانب الإمام الشلغومي الذي لم يكن غامضاً في مواقفه يوماً.

هل تُعتبر مسألة مسجد باريس الكبير شخصية، فترتبط بعميد المسجد، أم أنها مسألة مؤسسية؟

من الأصعب متابعة شمس الدين حفيظ مقارنةً بسلفه دليل بوبكر. أظن أن هذا الأخير ما كان ليجازف بإقامة علاقات وثيقة جداً مع «الإخوان المسلمين» في فرنسا. يجب أن نعترف بأن هذه الجماعة أخمدت بريق ذلك المسجد التاريخي بشكلٍ شبه كامل. يدرك عميد المسجد أنه مضطر لخوض لعبة «الإخوان» لتجنب الحملات ضده على مواقع التواصل الاجتماعي وللاتكال على السوق الحلال وانتزاع منافع رمزية ومالية منه.

لماذا اضطر مسجد باريس مرتَين لإعادة التأكيد على تحالفه مع «الإخوان المسلمين»، وبالتالي اتحاد مسلمي فرنسا سابقاً، منذ هجوم 7 تشرين الأول؟ ألا تحتاج هذه الحركة المعزولة إلى مسجد باريس وليس العكس؟


مسجد باريس يحتاج إلى «الإخوان المسلمين» أكثر مما تحتاج إليه هذه الجماعة لضمان صموده أولاً، لأن المسجد برأي قاعدة المجتمع المسلم، وأنا أعرف هذه البيئة جيداً، لا يتمتع بشرعية معيّنة. مسجد باريس أداة تستعملها الجزائر للتأثير على الدبلوماسية الفرنسية تجاهها، لأن حكّامنا يظنون أن هذا المسجد له تأثير حاسم على الجزائريين في فرنسا، وهي فكرة خاطئة. هذه القناعة بالذات هي التي تحافظ على علاقات مميزة بين الدولة والمسجد الكبير.






لماذا أُعيد التأكيد على ذلك التحالف القديم مع اتحاد مسلمي فرنسا السابق، وسط تغطية إعلامية واسعة، منذ هجوم «حماس» ضد إسرائيل؟

يجب أن نفهم أولاً أن الإسلام الجزائري لا يحمل طابعاً خاصاً، بل يمرّ به تياران أصوليان على غرار البلدان الإسلامية الأخرى: «الإخوان المسلمون» والسلفيون. تحصل بعض التعديلات الوطنية طبعاً، لكن يُوجّه هذان التياران المسار العام. يتبع مسجد باريس «الإخوان» في فرنسا لأن هذه الجماعة تسعى إلى جمع مختلف مكوّنات الإسلام تحت جناحها لتحقيق مشروع إقامة دولة الخلافة. وحدها جماعة «الإخوان» نجحت في جمع مختلف فئات طائفة معروفة بانقساماتها الداخلية في مكان واحد لأنها تُعتبر محرّك «الحركة الإسلامية»، كما سمّاها القرضاوي، أول مرشد للجماعة. يبدو مسجد باريس مثيراً للاهتمام، لكنه ليس محورياً بالنسبة إلى «الإخوان المسلمين» نظراً إلى العلاقة الإيجابية التي تربطه مع وزارة الداخلية ووسائل الإعلام. لهذا السبب، يستفيد «الإخوان» من كفاءات أتباعهم، سواء كانوا رجال دين أو شخصيات مؤثرة.

لا يمارس مسجد باريس إسلاماً معتدلاً، فقد دعم مثلاً الحجاب الإسلامي في منطقة «كريل»، في العام 1989. هل يتماشى خطابه المتشدد على المستوى الديني مع توجهات «الإخوان المسلمين» إذاً؟

اتخذ مسجد باريس موقفاً معادياً للإسلاميين الجزائريين و»الجبهة الإسلامية للإنقاذ» لأنها كانت جزءاً من أدوات شارل باسكا لمناهضة الأصولية الإسلامية. تاريخياً، كان المسجد يؤكد أن الأكل الحلال ليس إلزامياً، أو أن لحوم «أهل الكتاب» مباحة، أو أن الحجاب مقبول لكن غير إلزامي. لكن جاء «الإخوان المسلمون» وقلبوا الطاولة عبر شخصيات مؤثرة مثل طارق رمضان الذي تدرّب لدى «الإخوان». هو ورث هذه التنشئة من بيئته العائلية، وتحديداً والده سعيد رمضان. هكذا اضطرت الأوساط الدينية الإسلامية كلها للاصطفاف مع «الإخوان المسلمين» لأن هذه الجماعة نجحت، عبر شبكة من المدارس القرآنية والمساجد المحلية، في فرض الفكرة القائلة إن الله يفضّل أكثر الممارسات الإسلامية صرامة.

لماذا قرر إيمانويل ماكرون، بعد تدمير المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية عمداً عبر الاتكال على عميد مسجد باريس، أن يجعل هذا المسجد واجهة للإسلام في فرنسا والجهة التي يختار التحاور معها؟

هل كان هذا القرار خياراً أم فرصة عرضية؟ لا أظن أن الرئيس كان يملك خياراً آخر. يُستعمَل مسجد باريس كرمز للتـأكيد على التوافق بين الدولة والمجتمع الإسلامي في فرنسا. لن يستمرّ هذا الانطباع إذا تابع عميد المسجد إلقاء خطابات مختلفة بحسب الأشخاص الذين يخاطبهم. هذا الوضع يزعج الجميع، لكن من الإيجابي في الوقت نفسه أن تسقط الأقنعة وينتهي هذا الفصل الاستعراضي. حتى أن هذا التطور قد يعيد تنظيم العلاقات الفرنسية الإنكليزية عبر التأكيد على حصول طلاق نهائي ووضع حدّ للعلاقات التي نشأت بعد حقبة الاستعمار.

تطرّق إمام مسجد باريس الكبير، عبد العلي مأمون، إلى مسألة أخرى في 14 تشرين الثاني، فشكّك بمصداقية الأرقام المرتبطة بمعاداة السامية في فرنسا. دحض عميد المسجد كلامه، ثم اعتذر الإمام لكنه بقي في منصبه. ما هي دلالات هذه الحادثة؟

ردّت الدولة سريعاً في البداية عن طريق جيرار دارمانان، عبر نشر أرقام الحوادث المعادية للسامية. تنصّل عميد المسجد من كلام الإمام مأمون المقرّب من «الإخوان المسلمين» منذ سنوات عدة، لكنه اعترض على الإسلاموفوبيا التي يتعرضون لها، مع أن المشكلة لم تكن تتعلق بهذه الظاهرة مطلقاً. يحمل «الإخوان المسلمون» بطبيعتهم معاداة كبيرة للسامية. هم يريدون إقامة دولة خلافة، ولتحقيق هذا الهدف يُفترض أن يسترجع المسلمون أراضي «الكيان الصهيوني»، أي إسرائيل التي يرفضون تسميتها أصلاً. يصعب أن نحارب هذا الشكل الديني من معاداة السامية، لا سيما إذا أنكرت السلطات الدينية وجوده. لا يمكن حل أي مشكلة نرفض الاعتراف بها. تتعلق مشكلة أخرى بالطابع المعادي للسامية والوارد في ميثاق حركة «حماس». هل يمكننا أن نمنع تلاوة النصوص الدينية؟ إنه أمر صعب.


في المقابل، يمكننا أن نؤثر على خطابات الكراهية التي تتزامن مع تلاوة تلك الآيات. يمكن الاستفادة من «القانون الانفصالي» الذي صدر في العام 2021 في هذا المجال على الأقل. يتّضح ذلك في إنكلترا مثلاً، حيث نسمع دعوات علنية إضافية إلى قتل اليهود، بينما تبقى هذه الحوادث نادرة في فرنسا. يخطئ من يتكلم عن «الشارع العربي». هذه ليست صرخات «الشارع العربي» بل «الأمّة الإسلامية».


في إنكلترا، لا ينزل العرب إلى الشوارع بل الهنود والباكستانيون العنيفون جداً، وقد اتّضح ذلك خلال التظاهرات ضد سلمان رشدي. تثبت هذه العوامل كلها أن التحدي الحقيقي ديني وعالمي قبل أن يكون إقليمياً أو على صلة بالأراضي. بدأنا ندخل حقبة جديدة تقوم على عولمة الصراع العربي الإسرائيلي، ونحن نشاهد بأمّ العين انتشار مفهوم «الأمّة» في هذا الصراع، حيث تُعتبر الأراضي الفلسطينية مقرّ حراس الأماكن المقدسة. طالما لا نفهم أهمية الجغرافيا الفكرية والدينية، ولا سيما تأثير «الإخوان المسلمين» على الصراع، يتراجع احتمال التوصل إلى حل. منذ البداية، شجّع القرضاوي، مرجع «الإخوان المسلمين»، مسلمي الغرب الأغنياء والمثقفين على دعم الفلسطينيين، فجعل من هذه القضية واجباً دينياً لكل مسلم على وجه الأرض. نجح في تحقيق هدفه عموماً، وتمرّ هذه العملية بحرب الاتصالات والحرب التجارية عبر حملة مقاطعة إسرائيل... أصبح الفلسطينيون من الآن فصاعداً جزءاً من أوهام مجتمع عالمي خيالي ورهينة لديه.

MISS 3