تعليقاً على ما كتبت في نقد الياس عطالله وفواز طرابلسي، قال أحدهم إن نقدي ينطوي على شيء من الكراهية. تهمة مؤلمة، إذ كيف لي أن أكره من شاركتهم خبز النضال وملحه، غرمه وغنمه، حزنه وفرحه، عجره وبجره؟ وكيف للنقد أن يكون كراهية وقد افتتحته بنقد ذاتي قاس ولم أهرب إلى نقد الآخرين لأبرئ نفسي؟
النقد الذي بدأته منذ اتفاق الطائف لم يستند إلى ندم على ما ارتكبته أحلامنا «الجميلة المستحيلة»، بل هو بحث عن الممكن الذي علينا أن نصنعه مع خصوم الأمس، وهو سعي وراء صلات وصل ودودة مع من تواجهنا وإياهم في خنادق القتال أو على حلبات الصراع السياسي والإعلامي والفكري والإيديولوجي.
كيف يمكن ليسار جديد أن يقدم مراجعة إن لم يملك برنامجاً بديلاً؟ وكيف للنقد أن يستوي على قدميه إن لم يبدأ بنقد الذات؟ نقد الآخر هو الحرب الأهلية من غير سلاح ناري. عشرون عاماً من النقد الذاتي عجزت خلالها عن إقناع أصحاب الحل والربط بأخطائهم، بأخطائنا. وعشرون عاماً أخرى من النقد لم تثمر إلا حين حسمت الثورة سجال المقاتلين العقيم وقالت لهم، لا حل إلا بالدولة.
لم أقل لرفيقيّ غير ما قلته لسواهما وما سبق لي أن نشرته في «كتاب هل الربيع العربي ثورة»، وفي كتاب «أحزاب الله» وفي كتاب سيصدر تحت عنوان «في نقد الحرب الأهلية»، وفي كتيب «اليسار بين الأنقاض والإنقاذ»، ولا سيما في بحث بعنوان، في نقد اليسار، نحو يسار عربي جديد، عرضت فيه مبادئ ومنطلقات لا يمكن من دونها صياغة برنامج جديد ولا قيام يسار جديد. يمكن الاطلاع عليه على هذا الرابط https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=303846
لا أوافق من تبرأ من ماضيه الفكري والنضالي والسياسي محملاً رواد التجربة من ماركس ولينين إلى كل القادة التاريخيين مسؤولية الأخطاء النظرية والتطبيقية؛ ولا أوافق من اعتمد نظرية المؤامرة ليفسر أسباب الفشل، متمسكاً بحرفية التجربة ومبرئاً قادة الفكر والنضال الاشتراكي؛ وحدهم على حق من انكبّوا على نقد التجربة واستخلاص العبر منها.
جاء الربيع العربي ليكشف أنّ أحزاب اليسار غابت، وأن يساريين تمردوا على قرارات أحزابهم وتخلوا عن روابطهم التنظيمية وشاركوا من خلال القيم السياسية والثقافية التي حملوها. وبذلك شكل الربيع العربي منعطفاً عملياً في نقد ماضي اليسار.
من الآثار الإيجابية لانهيار التجربة الاشتراكية تحرير اليسار من التبعية ليقلع عن نسخ التجربة وليعطي الأولوية للتناقضات الطبقية والسياسية الداخلية، وليبدد نوعين من الأوهام، الفوكويامية القائلة بنهاية التاريخ، والسوفياتية القائلة بأن هذا العصر هو عصر الانتقال إلى الاشتراكية، وليبحث عن قراءة غير أحادية للماركسية، تخلصها من الأفكار الإيديولوجية والتأويلات المتعسفة.
التحرر من التبعية منح اليسار أيضاً فرصة التحرر من تسلط الحلفاء المحليين على نضاله، بعد قرن كامل من تماهيه مع الحركة القومية وقوى الإسلام السياسي وإقامة جبهة معهما في مواجهة الاستعمار والرأسمالية، غير أن الربيع العربي فضح هذا الخطأ المركب، حين انشق الإسلاميون عن التحالف وانحازوا للثورة، تاركين اليسار الرسمي وحيداً في مناصرة أنظمة الاستبداد.
تفسير التاريخ وأحداثه بالاقتصاد وحده يعبر عن فهم مغلوط للماركسية، ويجعل اليسار يستصغر النضال من أجل الديمقراطية ويغفل خطر الاستبداد وينتقص من قيمة أي ثورة إن لم تكن ثورة طبقية وبغير قيادة الطبقة العاملة.
يسار من دون برنامج هو يسار فوضوي. ولا يسار جديد أو متجدد إن لم يكن مشروع الدولة، دولة القانون والمؤسسات، أول بند في برنامجه.