جاد حداد

The King Who Never Was... قصة حقيقية عن السلطة والإمتيازات والبحث عن العدالة

19 شباط 2024

02 : 00

يتعمّق الوثائقي The King Who Never Was (الملك الذي لم يكن) في حياة فيتوريو إيمانويل، أمير نابولي وآخر وريث لعرش سافوي. يكشف المسلسل تفاصيل صادمة عن قضية هي الأكثر إثارة للجدل في حياة إيمانويل: وقعت جريمة قتل غامضة ذهب ضحيتها فتى في التاسعة عشرة من عمره اسمه ديرك هامر. على مرّ أربعة عقود من الصراع المتواصل، حاربت شقيقة الضحية، بيرجيت هامر، بلا كلل لتحقيق العدالة. يتطرّق المسلسل إلى رحلتها وصولاً إلى نهاية القضية. لكن هل حققت معركة بيرجيت نتيجة مُرضِية أم أنها اضطرت بكل بساطة لتقبّل أبسط إجراء قضائي يمكن إقراره؟

يسلّط الوثائقي الضوء على التحدّيات التي واجهتها بيرجيت خلال هذه المعركة، ويستكشف تفاصيل النظام القانوني وديناميات السلطة التي تنحاز إلى الشخصيات الغنية والنافذة من أمثال فيتوريو إيمانويل. مع عرض كل حلقة جديدة، يتّضح الفرق بين أصحاب السلطة والامتيازات والأشخاص العاديين. يحافظ المسلسل على وجهة نظر حيادية، لكنّه يقدّم منصّة لفيتوريو إيمانويل وبيرجيت هامر لسرد نسختيهما من القصة. تبدو شخصية بيرجيت متمرّدة وقوية، وهي تتمسّك بحقها في تحقيق العدالة. في المقابل، تضفي تصرّفات فيتوريو وغياب مؤشرات ندمه طابعاً من السرّية على شخصيته.

بعد استفتاء العام 1946 الذي أسفر عن نفي عائلة سافوي المالكة في إيطاليا، كان فيتوريو إيمانويل لا يزال فتىً صغيراً تمّ اقتلاعه من أرضه الأم. هذا التهجير القسري لم يؤثر عليه فحسب، بل انعكس أيضاً على ابنه الذي لم يتعرّف على بلده الأصلي في أولى سنوات حياته. انتقلت عائلة سافوي المؤلفة من فيتوريو، وزوجته مارينا، وابنهما، إلى جزيرة «كافالو» في كورسيكا، فرنسا. لكن وقع حدث غير متوقّع خلال صيف العام 1978 في فرنسا، حين انضمّت عارضة شابة وجذابة اسمها بيرجيت وشقيقها إلى مجموعة من الشبان الإيطاليين الراشدين للمشاركة في رحلة بالقارب كانت متّجهة إلى جزيرة «كافالو». لم يتوقع أحد منهم أن تُمهّد تلك الرحلة الصيفية لأحداث مأسوية.

أثارت المجموعة الصاخبة التي شاركت في تلك الرحلة استياء فيتوريو. زادت الأجواء المشحونة حين اكتشف هذا الأخير أن زورق التجديف التابع لقاربه مفقود في وقتٍ متأخر من تلك الليلة المصيرية. وعندما تفاقمت المشاكل، أخذ فيتوريو بندقيته وتورّط في عراك محتدم مع شاب اسمه نيكي باندي. وفي لحظة غضب متهوّرة، أمسك فيتوريو بندقيته وأطلق رصاصتَين: حطّمت رصاصة منهما نافذة قارب مجاور وأصابت شقيق بيرجيت، ديرك، بإصابة خطيرة. استيقظت بيرجيت واكتشفت إصابة شقيقها، ثم اتّخذت التدابير اللازمة حين شاهدت نزيفه الحاد.

رغم نقل ديرك إلى المستشفى في أسرع وقت وخضوعه لتسع عشرة جراحة في المرحلة اللاحقة، إلا أنه عاد وخسر معركته الشاقة بين الحياة والموت. هذه الخسارة المفجعة أثارت غضب بيرجيت، فتعهّدت تحقيق العدالة من أجل شقيقها. لكن لم تكن هذه المسيرة سهلة بأي شكل، فقد وجدت نفسها بعد فترة قصيرة وسط صراع ضد أحد أعضاء العائلة المالكة. اعتُقِل فيتوريو في البداية، لكن أُطلِق سراحه لاحقاً بفضل مكانته ونفوذه، فواجهت بيرجيت أسوأ مظاهر ظلم المجتمع. لكنها لم تتراجع، بل تمسّكت بقضيتها طوال 13 سنة ونجحت أخيراً في جلب ولي العهد مكبّلاً إلى المحكمة. لكن رغم جهودها الحثيثة وانتصارها الرمزي حين شاهدت فيتوريو وهو يتحمّل عواقب أفعاله، كانت النتيجة النهائية مخيّبة للآمال. بلغت رحلة بيرجيت ذروتها حين أثبتت أن مواجهة أعضاء العائلة المالكة هي تجربة مرعبة بمعنى الكلمة. لم تنتهِ القضية بنتيجة مُحبِطة فحسب، بل إنها أهدرت جزءاً كبيراً من حياة بيرجيت.

يبرع صانعو العمل في تجسيد قوة الأثرياء وامتيازاتهم، فيعرضون المزايا غير المحدودة التي يستفيد منها الأغنياء وأصحاب النفوذ. كذلك، يكشف المسلسل الفساد المستفحل في بعض مناصب السلطة، ويسلّط الضوء على النظام القضائي الشائب، ويعكس واقعاً شائكاً حيث يفتقر مفهوم العدالة إلى الموضوعية. غالباً ما يختلف تعريف العدالة الذي يحمله الأفراد عن المعايير الاجتماعية، لا سيما تلك التي يفرضها النظام الرأسمالي. لكن يتميّز هذا الوثائقي في المقام الأول بحرصه على منح كل شخصية مدة متساوية على الشاشة، ما يسمح لكل طرف بتقديم نسخته من الحقيقة.

يتميّز جانب لافت من المسلسل بتصويره السينمائي المدهش، فهو يبثّ شعوراً سلساً بالحنين عبر استعمال ألوان هادئة تعكس أجواء السبعينات بأفضل طريقة ممكنة. قد تكون المؤثرات البصرية وحدها آسرة، لكن يصعب التركيز على جمال فرنسا الملوّنة بسبب فظاعة القضية المطروحة، إذ تُذكّرنا تلك الأماكن طوال الوقت بحدث مأسوي جداً.

بشكل عام، يتميز المسلسل بجو آسر ويطرح أفكاراً عميقة كونه يسلّط الضوء على الاختلافات القائمة بين أصحاب النفوذ والناس العاديين. هو يكشف المصاعب التي يواجهها كل من يجرؤ على تحدّي الطبقة الحاكمة. ورغم طبيعة تلك الحادثة الشائكة، إلا أنها تُعرَض بأسلوب فنّي وتترك انطباعاً مؤثراً طويل الأمد. تُذكّرنا هذه القضية بتعقيدات المجتمع وتدفعنا إلى التفكير بالتوازن القائم بين السلطة والعدالة. إنه وثائقي ناجح على المستويات البصرية والفكرية، وهو يستحقّ المشاهدة حتماً.

MISS 3