حسان الزين

الإحتجاج والإعتراض وإشكالية الذات

24 شباط 2024

02 : 02

ثمة إشكالية لا يمكن الارتقاء من حالة الإحتجاج والإعتراض إلى معارضة سياسية معاصرة، من دون الاعتراف بها ومعالجتها، وهي: «إشكالية الذات»، سواء أكان شكلها حزبيّاً أم مجموعاتياً أم شخصياً. مع التشديد على أننا لا نتحدث عن «الذات» ببعدها النفسي أو عن الفردية وتميّزها وحرّيتها.

لا شك في أن الذات من النزعات اللبنانية التاريخية المتأصّلة. وقد ارتبطت بالوجود والهوية اللذين يشعر الإنسانُ اللبنانيُّ بأنّهما، في غياب الدولة، على عاتقه الشخصي تارة والجماعتي طوراً. ويتمثّل ذلك بـ»الشطارة» والأنانية حيناً وبـ»العصبية» حيناً آخر، سواء أكانت العائليّة أو العشائريّة أو المذهبيّة أو الحزبيّة...

ولا شك في أنّ هذه الإشكاليّة ترسّخت، أيضاً، في الوقائع اللبنانية، السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والإنسانيّة. وانتشرت أكثر في ظلِّ تدمير الحياة السياسيّة والثقافيّة، وتراجع العمل الاجتماعي والجماعي، وتعميم ثقافة الهويّة - المنفعة.

كذلك، لا شك في أن الصراع الأيديولوجي (اليميني واليساري، العروبي واللبنانوي...)، سابقاً، ووصوله إلى ممارسة العنف، قبل أن يضعف ويتفكّك ويشهد تنقلات وانسحابات فردية وذوبانات جماعية، أسهم في ذلك. لقد مَنح الذاتَ مبرراتِ النجاة بالنفس (او تدبير الراس) من جهة، والانغلاق سواء أكان مع الثبات على المواقف السابقة أو مع التحوّل عنها، من جهة أخرى.

ولا شك في أن هناك أسباباً أخرى، لكنّ المهم الآن هو المعالجة. وهذه أكثر من ضرورة. فهناك استحالة للتصدي للمهمّات العديدة للارتقاء من الإحتجاج والإعتراض إلى معارضة سياسيّة معاصرة ومواجهة قوى السلطة، من دون تقييم الخطابات والتجارب السابقة، ومن دون الحوار والعمل الجماعيين لصوغ مشروع فكري وبرنامج سياسي وإطار تنظيمي (أو أكثر). يستحيل ذلك إذا ما حضرت إشكاليّة الذات.

وليس المطلوب عقاب الذات أو جلدها أو تذويبها، ولا مبرر للدفاع المقدّس عنها. حالات الإحتجاج وقوى الإعتراض بحاجة إلى النظر في واقعها من جهة، وفي المهمّات التي تستدعيها المرحلة والواقع المحليين والإقليميين والعالميين من جهة أخرى. وفي أثناء ذلك، ومن خلاله، تُنتج مشروعها الفكري وبرنامجها السياسي وإطارها التنظيمي (أو أكثر). وكما يتطلّب ذلك مرونة وانفتاحاً وديمقراطيّة منظّمة وهادفة، كذلك يستوجب الإقرار بأن لا أحد يحتكر الحقيقة، بل الإقرار بأن المتغيّرات العالميّة والإقليميّة والمحليّة، السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة...، تفرض المواكبة وتجديد الفكر والأداء السياسي... والذات الشخصية والجماعية ضمناً وأوّلاً.

ثمّ إنَّ إشكالية الذات من أسباب انقسام تيّار الإحتجاج والإعتراض وتشتّت حالاته وقواه وعدم ارتقائه إلى معارضة سياسية. وفيما لعبت هذه الإشكالية دوراً رئيساً في الجمود الفكري وغياب السياسة وعدم إنتاج إطار تنظيمي (أو أكثر)، وفي التطبّع مع السياسة الاستهلاكيّة الشفهيّة التي تعتمدها قوى السلطة، أسرت وتأسر خطابات الإحتجاج والإعتراض وتشكيلاته في خريطة الانقسام المذهبي - الإقليمي - الدولي وخطاباتها ولعبتها. وغالب الظن أن أيَّ «ذات» في تيّار الإحتجاج والإعتراض، مهما فعلت، ولو قالت أجمل وأروع ما يمكن قوله، لن يُسمع قولُها أو يصل إلى حيث يجب، إذا ما فعلت ذلك وحدها. وهذا واقع، فالجميل والرائع موجود لدى معظم الحالات والقوى، والأفراد، لكنّ ذلكَ غير مكتمل، وهو مقيّد. والسبب الأبرز وراء عدم الاكتمال والتقييد هو كون العمل والقول «ذاتيين» وليسا جماعيّين. وفي غياب العمل الجماعي والحوار المنظّمين والهادفين يغدو الجميل والرائع هباءً منثوراً. والأهم أنه، في انتظار الحوار والعمل الجماعي، يبدو ذلك عند كثيرين من اللبنانيين واللبنانيات، قاصراً ومحدوداً وكلاماً «ذاتيّاً».

MISS 3