د. منير الحايك

قراءة في رواية "باهبَل" لِـرجاء عالم

2 آذار 2024

02 : 02

باهبَل

كثيرةٌ هي الروايات التي تنهيها وأنت في حالة من الفرح والذهول والتقدير للنص ولكاتبه، ولكن أن تظلّ تكرّر عبارة «مش معقول» وتحاول أن تجد كلاماً يعبّر عمّا قرأت بعدما أنهيت النصّ وأنت تسترجع كلّ ما قرأته بوصفه حالة يجب أن تعيدها لتستوضح الكثير، فأنت قد أنهيت لتوّك نصّاً لرجاء عالم، الروائية السعودية، والنص هو «باهبَل – مكة Multiverse 1945 – 2009» (دار التنوير 2023).



أوّل ما استوقفني واستفّزني العنوان، «باهبل» ولكن لم أبحث عن المعنى، الذي يوحي بالخُبل والـ»هبَل»، فقررت أن أترك النصّ يفصح عن المعنى، النصّ الذي يبدأ بانتحار الدكتور السردار، الذي قاد سيارته من جدّة إلى مكة، إلى فيلا عمته، ودخل غرفةً فيها تماثيل ولوحات وثياب وأمور غريبة، وهناك يشنق نفسه. ولكن قبل أن تفكّر بأن الأهبل قد يكون هذا الرجل، تأخذك الرواية إلى منتصف القرن العشرين، إلى مكة، المدينة التي لا نعرف عنها سوى حكايات الرسول وأهله، وتاريخها وشهرتها بالتجارة، وأوثانها التي تكسّرت منذ ألف وأربعة عام، وشعرائها ومعلقاتهم، وما زلنا لا نعرف عنها سوى مواسم الحج والكعبة والتنظيم المبهر في كلّ عام، ومؤخّراً تبهرنا العمارة والهندسة والأبنية الشاهقة التي اجتاحتها، ولكن ماذا عن ناسها، أبنائها!

لو أنّ أحداً ليس من أبناء المدينة أرادها أن تكون مسرحاً لأحداث قصصه وشخوصه، لقلنا إنه يحشر المكان من أجل اسمه ومكانته وتاريخه، أمّا وأن تختاره ابنته، فالأمر مختلف. تبدأ بالقراءة، فيواجهك نصٌّ تاريخيّ صعب، لأنه بعد حادثة الانتحار نعود إلى مصطفى السردار، وأمّه المصرية المنفتحة على الدنيا، والتي أثّرت بحفيدتها قمرية، التي تصبح في ما بعد سكّرية، وتأخذها في رحلة إلى مصر بالفعل، فتعود سكرية مع ذكرياتها وكتبٍ عديدة، وتبدأ مراسلات بين المرأتين، فتظنّ أنك أمام نصّ سيحكي قصة المرأة من هذه الناحية التي تكرّرت كثيراً، فكيف وإن كانت لعائلة مكّيّة، ولكن لا، النصّ يأخذنا إلى ما هو أعمق، إن استطاع القارئ تخطّي صعوبة الصفحات الخمسين الأولى.

الرواية تحكي قصّة الأخوات، مع تدخّل بين الحين والآخر للإخوة والأحفاد من الذكور، ولكن فقط من أجل رفد حكايات النسوة وتبرير بعض السلوكيات، حورية المعمّرة، وسكرية المنفتحة المطلّقة، ونورية المحبّة التي فقدت حبيبها، وغيرهن من النسوة، ولكن نورية وسكرية تحتلان المساحة الأوسع، لأنّ تأثيرهما بحياة عباس، نوري، باهبل، الذي نكتشفه في ما بعد، يكون قويًّا، لذا يقرر تصوير حياتيهما، وحياة نساء العائلة في فيلم سينمائي.

حياة عباس، ونوري، إن أردنا أن نفصل بين الشخصيتين، والتي تضعنا الرواية بالفعل في قسمها الأخير، وخصوصاً مع موت نورية، أحياناً في حالة من مراجعة كلّ ما قررناه حول شخصية عباس ونوري، فبعد يقين القارئ بأنه كان بالذكاء والقدرة على تحليل ما بين السطور وأنه بالفعل تأكد من أنهما شخص واحد يعاني من الفصام، تأتيك الكاتبة ببعض العبارات لتجعلك تشكك، والأجمل عندما تعود وتصرّح عن هذا الأمر قُبيل نهاية النص بشكل عفويّ وسريع وبسيط، فتُفاجَأ، وفي ظنّك أن مفاجأةً ما تنتظرها يجب أن تظهر، ولكن لا تظهر، فرجاء عالم تعرف أن مثل هذه المفاجآت لم تعد هي «الجديد».

تاريخ عائلة السردار، المكّيّة، بكلّ ما يحمله من سلطة الأب الطاغية، وظلم المرأة، واستمرار الإخوة على المنوال نفسه بعد رحيل الأب، أمور أرادتها الرواية أن تظهر للعلن، ولكن ليس الأمر وكأنها كانت غاية بقدر ما كنت وسيلة، لتعبُرَ من خلالها قصص العمّات، قصص النساء، نساء مكة، نساء مدينةٍ خليجية عربية شرقية عادية، بمعزل عن رمزية المدينة، وبمعزل عمّا يختزله اللاوعي الجمعي عنها، فالكاتبة تحمل قضية مدينةٍ ناسُها على هامش كلّ ما يحدث، فالكلّ يفرح بتوسعة الحرم، والكل يفرح بأصوات الأذان تصدح، والكل يفرح بملايين الحجاج كل عام، ولكن ماذا عن أبناء المدينة، من هم، وما هي قصصهم؟

ولأن الوعي بالمرض النفسي لم يكن غاية بذاته أيضاً، ولأنّ شخصية عباس/نوري تسرد قضاياها وقضايا أبناء جيل بكامله أراد تحدي سلطة الأب والتمرّد عليها، في بلادٍ، القيل والقال فيها ما زال الحاكم بأمره، يجد المتلقّي نفسه أمام قبول لحالة الفصام بأنها أمر عادي، مقبول، تعامَلَ الجميع معه على أنه أمر يمكن إحاطته بالحب والاهتمام، فقد تزوّج عباس، وأنجب، على الرغم من أن نوري، قرينه، موجود، أما الأهم، فكانت صراعات نوري وعباس نفسها، عباس الخجول الرصين المبدع التاجر الدكتور المهندس، ونوري الفنّان الحالم غير العابئ بكل القيود، وهنا يأتي السؤال، ألسنا جميعاً نعيش كلّ مع قرينه، ولكنه لا يعرف اسمه، وإن عرفه وحاوره، اتُّهِم بالفِصام؟

لغة النصّ متينة، وأسلوب الكاتبة لا تشوبه زلّات، وإصرارها على تداخل المحكية بالفصحى أمر جريء وفيه من التحدّي ما تحمله شخصيات النصّ من رفض ومواجهة، ولكنه مقبول ومطلوب برأيي، فلمَ على الكاتب أن يختار بين الفصحى أو العامية في الحوارات؟ فلتَكُن بحسب ما يُـحِب، وانتهى!

بداية الرواية هي الأصعب، فالقارئ يحتاج إلى صبر وتركيز للإمساك بخيوط كل شخصية وكل حدث، وليعتاد اللغة والأسلوب، أما بعد ذلك فمُتعة خالصة، لحياة عباس والعمات، ونقاشات وفلسفة وعمق، بين نوري وأمهاته، وخصوصاً نورية وسكرية، في حين تظهر أمه البيولوجية بشكل عابر في نهاية النص، عندما تلجأ إليها زوجته لتشكوه، تلك الأم التي نظنّ بأنها لم تكن حاضرة، لنكتشف بأنها أكثر من كان يفهمه ويدافع عنه، أما نهاية الرواية، فجمال خالص لا يوصف، يجعلك مع تغيّر حالك من دموع ودهشة وجحوظ عينين وابتسامات، تظنّ أنك تحوّلت إلى «باهبَل»، وخصوصاً عندما يتحاور عباس، الميت، مع حورية، وهنا الدهشة الأخيرة، التي تعيدك إلى كل ما مرّ معك فتقول عبارة واحدة «معقول!».

النقد السياسي والاجتماعي حاضر بقوة في هذه الرواية، ولكن بشكل غير صريح وغير مبتذل، وإن أردتَ أن تقول إنه لا سياسة فقد تكون على حقّ أيضاً، وهنا مكمن القوة، ولعلّ أبرز الحالات السياسية التي تظنّ أنها تمرّ مرور الكرام، هي ثورة جهيمان وما رافقها من شغب وموت ودماء، لتجد أنها كانت السبب الرئيس في حالة الفصام التي حصلت لعباس وهو بعد في السادسة، ولكن أقوى المشاهد، في نهاية النص، عندما تكتشف، أنّ حورية المعمّرة، كانت شهيدة تلك الأحداث. فنورية وسكرية وتأثيرهما الكبير في حياة عباس، لم تكونا إلّا نقطة في بحر تأثير حورية، وهنا الجمال الخالص الذي ذكرته، والذي معه ينتهي النصّ.

«باهبل» رائعة من روائع النصّ الروائي الحديث، مشغول بحرفية وحنكة، ومشبوك خيطاً خيطاً، ومع كلّ تعدد الشخصيات والأحداث، ومع كلّ الضياع بين شخصية عباس ونوري، حتى شخصية نص لسان التي تعود في النهاية، لأنها كانت متّهمة بالتأثير على نوري المخنَّث، يبقى المتلقّي مشدوداً للنص، ويحمل النصّ بنفسه على عاتقه توجيه القارئ وتركيزه. وهنا أنهي على أنّ شريط حياة الإنسان، كما قالت رجاء عالم لنا في هذه الرواية، قد يمرّ أمامه، وهو يرحل نحو موته، على مدى أكثر من 300 صفحة!





MISS 3