الإقتصاد غير الشرعي، تبييض الاموال، التهرب الضريبي... ظواهر قائمة في اقتصادات دول العالم كافة، ولهذا السبب تمّ وضع معايير عالمية يتم تطويرها باستمرار لمكافحة تلك الظواهر كل على حدة، على ان يتم تصنيف الدول واقتصاداتها وفقاً لالتزامها بتلك المعايير وصرامة تطبيقها.
ورغم ان لبنان وقع اتفاقات دولية عدّة في اطار مكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب والتزم قطاعه المصرفي بتوصيات مجموعة العمل الدولي FATF طوال سنوات مضت، إلا ان الامر لم يخل من خروقات لكنّه بقي مضبوطاً الى حدّ كبير الى حين اندلاع الازمة المالية في 2019 وتنامي الاقتصاد النقدي والاقتصاد غير الشرعي، مما جعل تتبّع حركة كل الاموال مهمّة مستحيلة ضمن القطاع المصرفي، وأفسح المجال بشكل اكبر لعمليات تبييض الاموال. ان تقرير مجموعة العمل المالي الاخير حول لبنان أشار الى ان لبنان أحرز نتائج مقبولة في الالتزام الفني، حيث حصل على درجة «ملتزم» أو «ملتزم إلى حد كبير» في 34 توصية، بينما حصل على درجة «ملتزم جزئياً» في التوصيات الست المتبقية، مما يتطلب اجراء بعض التعديلات في القوانين والتشريعات.
الإقتصاد النقدي
أما بالنسبة للتهرب الضريبي الذي طالما كان قائماً في لبنان نتيجة عدم اقرار وتطبيق إرادي من قبل السلطة لمعايير وقوانين صارمة لمكافحته، فان تلك الظاهرة تنتشر وتنمو بشكل متزايد بعد اندلاع الازمة المالية في 2019، وتنامي الاقتصاد النقدي وغير الشرعي. وإذا كانت تقديرات التهرب الضريبي في 2018 عند 4,5 مليارات دولار ونسبة المتخلفين عن دفع الضريبة من إجمالي المكلفين 70%، فلا بدّ انها تضاعفت اليوم! أوّلاً، لان مفهوم المواطنية الضريبية مفقود في لبنان، وثانياً لان تراخي الدولة المتعمّد وعجزها وضعفها في فرض سيادتها وتفشي الفساد في اداراتها، جعل المؤسسات والشركات تعتبر ان قدرتها على التهرّب الضريبي تفوق قدرة الدولة على مكافحتها او ضبطها، وثالثاً، لان حماية الدولة لشريحة كبيرة من المتهرّبين ضريبياً، جعل الشركات والمؤسسات الشرعية والملتزمة بتسديد متوجباتها الضريبية، تشعر بالغبن. واصبحت، مع تنامي منافسة المؤسسات غير الشرعية لها، تميل أكثر نحو التهرّب الضريبي مع كلّ اجراء وقرار حكومي يثبت انها تعمل في بلد «اللادولة واللاقانون»، خصوصاً ان ثقل العبء الضريبي يزداد في مقابل عدم الاستفادة من أي خدمات حكومية.
وبما ان التهرّب الضريبي أمر واقع وشائع حتّى في كافة الدول المتحضرة بينما تختلف ضوابط ومعايير مكافحته، ما هي اساليب الشركات للتهرب الضريبي في لبنان وما هو دور خبراء المحاسبة في هذا النهج؟
ضمن استثناءات معدودة، لا توجد شركة او مؤسسة من المؤسسات الشرعية الملتزمة ضريبياً في لبنان، لا تملك «دفترين» او ميزانيتين لبياناتها المالية: ميزانية رسمية للبيانات المالية التي تصرّح على اساسها ضريبياً، واخرى غير رسمية للتهرّب الضريبي.
عددها وأنواعها
من الاساليب التقليدية المعروفة والمتّبعة من قبل الشركات للتهرّب الضريبي:
1 - إخفاء النشاط كلياً بحيث لا يصل عنه أية معلومات إلى وزارة المالية وبالتالي لا يسدد أية ضرائب على الاطلاق.
2 - عدم التصريح عن حجم المداخيل الفعلي والإحجام عن تقديم إقرار ضريبي للإدارة الضريبية.
3 - إخفاء أرقام الأعمال في جميع بيانات مكلفي ضرائب الأرباح الحقيقية.
4 - تخفيض قيمة الدخل الخاضع للضريبة.
5 - التلاعب في قيمة الضرائب المقتطعة من دخل العمال والموظفين في الشركات، وعدم تحويلها إلى الدولة كاملة.
6 - تقديم فواتير مزوّرة لإدارة الجمارك من أجل تخفيض قيمة الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة المستخلصة على السلع المستوردة.
7 - التصريح بفواتير شراء وهمية من أجل تضخيم المصاريف، أو عدم التصريح بعمليات بيع لخفض حجم الايرادات. اي زيادة النفقات والتكاليف على نحو وهمي عبر زيادة تكاليف السلع والعمل وزيادة نفقات أجور العمال حتى تصبح الأرباح الظاهرة قليلة وبالتالي تقلّ الضرائب المفروضة عليها.
8 - عدم سداد ضريبة دخل على رواتب العاملين في المصانع والشركات من أجل تقليص الكلفة المفروضة على أصحاب العمل.
9 - تسجيل مستوردين وهميين من أجل التهرب من دفع الضريبة (إخراج الذمة المالية للمستورد).
10 - إسترداد الضريبة على القيمة المضافة بصورة احتيالية. ومثال على ذلك الفضيحة التي ظهرت في مطار بيروت منذ حوالى 20 عاماً، والتي كشفت احتيال عدد من الشركات التي قامت باسترداد ما قيمته 600 مليون دولار من الضريبة على القيمة المضافة من وزارة المالية، وهي شركات قامت بتسجيل فواتير شراء بضائع من شركة وهمية غير مسجلة ولا تسدد الضرائب، وظيفتها الوحيدة اصدار فواتير لتلك الشركات تدلّ على انها اشترت بضائع وسددت الضريبة على القيمة المضافة، مما أتاح لها استردادها لاحقاً من وزارة المالية.
مقونن وغير مقونن
في هذا الاطار، اوضح رئيس مؤسسة JUSTICIA الحقوقية في بيروت والعميد في الجامعة الدولية للأعمال في ستراسبورغ المحامي د. بول مرقص ان هناك نوعين من التهرّب الضريبي في لبنان:
- تهرّب ضريبي مقونن أي ان القانون يجيزه من خلال تأسيس شركات من نوع «هولدينغ» وسواها والتي تجيز إجراء هندسة قانونية من شأنها إفادة اصحاب العلاقة من تخفيضات وتنزيلات ضريبية على نحو قانوني.
- تهرّب ضريبي مخالف للقانون من خلال عدم التصريح نهائياً عن بعض الزبائن او التصريح على نحو غير مطابق للحقيقة والواقع.
ضرورة تشجيع الاستثمار
وأكد مرقص لـ»نداء الوطن» ان مكافحة التهرّب الضريبي تكمن أوّلاً، عبر تعديل القوانين، وثانياً من خلال تفعيل الرقابة الضريبية وتمكين موظفي مصلحة الضرائب اي رفع رواتبهم بغية تفعيل الانتاجية. تفعيل المواطنية الضريبية وتوعية المواطنين على ضرورة المطالبة بفواتير رسمية لدى القيام بأية عمليات تجارية كي لا يفسحوا المجال امام التجار بالتلاعب بتصريحاتهم الضريبية.
كما شدد على ضرورة ان لا تصبح الضريبة عائقاً امام الاستثمار وان لا تصبح او يُفهم مفهوم مكافحة التهرّب الضريبي على انه عبء او ثقل ضريبي على الاستثمار مما يجعله يتجه نحو بلدان أكثر جاذبية. واستغرب مرقص في هذا السياق، الزيادات الضريبية التي تضمنتها الموازنة بدلاً من تقديم حوافز واعفاءات ضريبية لتشجيع الاستثمار، في بلد يسعى لاستعادة الثقة بنظامه الاقتصادي والمصرفي.
المال السائب يعلم الناس الحرام
من جهته، أوضح نقيب خبراء المحاسبة عفيف شرارة ان التهرّب الضريبي ناتج أوّلاً عن الاسترخاء في تطبيق القوانين على قاعدة «المال السائب يعلّم الناس الحرام». مشيراً الى ان عدم وجود سلطة صارمة في تطبيق القوانين الراعية، يؤدي الى توجّه الشركات لعدم احترامها وتطبيقها. وبالتالي فان السلطة التنفيذية هي المسؤول الاول عن التهرّب الضريبي.
وقال لـ»نداء الوطن»: لو يتمّ تطبيق نظام البطاقة الموحّدة على الدخل، لكان التهرّب الضريبي أصعب بكثير. لو يتمّ تفعيل قانون «الاثراء غير المشروع» وتطبيقه ومساءلة اصحاب الثروات عن مصادر اموالهم، لما كان التهرّب الضريبي سهل المنال. لو يتمّ ضبط عملية إدخال البضائع الى لبنان بالشكل القانوني، لكان التهرّب الضريبي غير متاح بسهولة. لو تتمّ محاسبة من يتخلّف عن تسديد متوجباته الضريبية، من خلال املاكه وامواله وفقاً لما ينصّ عليه القانون، لما تجرّأ كثيرون على التهرّب ضريبياً!
التهرب الجمركي
ولفت شرارة الى ان أبرز اساليب التهرّب الضريبي تبدأ بشراء البضائع بطريقة غير شرعية وغير رسمية إن عبر التهريب او من خلال التلاعب برسومها الجمركية، مما يتيح اعادة بيعها بطريقة غير رسمية ايضاً، اي من دون مستندات رسمية تلزم تسديد متوجبات ضريبية عليها. «ومن هنا تبدأ قضية «الدفترين» لدى الشركات، حيث تسجل بياناتها الرسمية المثبتة بمستندات في دفتر، والبيانات المالية غير الرسمية والتي تعود الى عمليات بيع وشراء من دون مستندات او فواتير رسمية وفقاً لاصول المادة 38 من قانون الضريبة على القيمة المضافة، في دفتر آخر. معتبراً ان عدم المحاسبة فتح المجال امام ظاهرة «الدفترين» وسهّل التهرّب الضريبي.
الأزمة فاقمت الظاهرة
كما أشار شرارة الى ان تهريب البضائع عبر المعابر والمرافئ هو عامل أساسي للتهرّب الضريبي، مؤكداً ان تنامي الاقتصاد النقدي منذ اندلاع الازمة في 2019 وفقدان المصارف لدورها كوسيط مالي في التعاملات التجارية، جعل التهرّب الضريبي أسهل بأضعاف المرّات عما كان عليه سابقاً، نتيجة عدم وجود مستندات تثبت صحّة المعاملات التجارية كالتحويلات المصرفية والشيكات المصرفية التي كانت تعتمد كمستندات رسمية.
وحول دور خبراء المحاسبة في عملية كشف التهرّب الضريبي او التلاعب في البيانات المالية، اوضح شرارة ان مسؤولية خبراء المحاسبة التدقيق في البيانات المالية الرسمية للشركات، اي البيانات الموثقة والمثبتة التي تعرضها عليهم الشركات من اجل التحقق منها. أما البيانات غير الرسمية، اي الدفتر الثاني للبيانات الرسمية، فلا تعرضه الشركات على خبراء المحاسبة ولا علاقة لهم مطلقاً به.