جاد حداد

Watcher... بين رعب وترقّب

11 آذار 2024

02 : 00

في فيلم Watcher (المراقب)، تشعر «جوليا» (مايكا مونرو) بوجود خطبٍ ما في الشاب الذي يقيم في المبنى السكني المُقابِل لشقتها، فهو لا يكفّ عن التحديق بها. لكنها تتخبط حين تضطر للاعتراف بأحاسيسها. هي تعجز عن إيجاد الكلمات للتعبير عن شعورها بالخطر وتتساءل عن احتمال إصابتها برهاب غير مبرّر. «جوليا» امرأة مشوّشة ووحيدة بشكل عام، لذا قد تعجز عن «قراءة» الأحداث بالشكل المناسب. هي تحاول أن تبتعد عن الأفكار المزعجة والمخيفة وتريد أن تقنع نفسها بعدم وجود أي مشكلة. لكن يشير حدسها إلى واقع مختلف.

يجسّد الفيلم حالة «جوليا» الذهنية بجميع الوسائل الممكنة: المؤثرات البصرية، تصميم الصوت والإنتاج، درجات الألوان، أداء مونرو المتقن. تجتمع هذه العوامل كلها للتعبير عن وجهة نظر «جوليا» لدرجة أن نشكك أحياناً بمصداقيتها باعتبارها الشخصية التي تروي قصة حياتها. يرتبط هذا الجانب بالأسلوب الذي يختاره صانعو العمل لعرض القصة واهتمامهم بأدق التفاصيل (تصميم الشقق الداخلي، المفروشات، لون الستائر، سترة «جوليا» وجواربها الحمراء...). ينشر الفيلم عمداً أجواء باردة ومرعبة بمعنى الكلمة. سنكون أمام صمتٍ صاخب وأصوات مدوّية في آن. من الملاحظ أيضاً أن جميع التفاصيل لا تبدو بالحجم المناسب: السقوف أعلى من اللزوم، والسلالم طويلة بدرجة مفرطة. كذلك، تعلو الأصوات وكأنها تصدر من أسفل بئر عميق، وتبدو المساحات التي يُفترض أن تكون مليئة بالأغراض فارغة والعكس صحيح. بعبارة أخرى، تبقى الأجواء العامة مرعبة، ومن المعروف أن الرعب عامل مغرٍ. لا مفر من الشعور بوجود خطبٍ ما طوال الوقت. هذا الفيلم هو الأول في مسيرة كلويه أوكونو، كما أنه أول فيلم طويل يستلمه مدير التصوير بنجامين كيرك نيلسن، ويشكّل هذا الثنائي فريقاً قوياً.

في بداية الفيلم، تنتقل «جوليا» وزوجها «فرانسيس» (كارل غلوسمان) إلى بوخارست. هو نصف روماني، ويجيد تكلّم اللغة المحلية، ويعمل لساعات طويلة، ويترك «جوليا» وحدها مع أجهزتها. تبدأ المشكلة في سيارة الأجرة التي توصلهما من المطار إلى شقتهما الجديدة. يتبادل «فرانسيس» الحديث مع سائق سيارة الأجرة باللغة الرومانية ولا تفهم «جوليا» أي كلمة فتشعر بالارتباك، لا سيما حين تفترض أن الرجلَين يتكلمان عنها. لا تعرض أوكونو أي ترجمة لما يُقال، ما يجعل المشاهدين ينزعجون من الموقف بقدر «جوليا». تمتعض هذه الأخيرة وتسأل زوجها عن ما قاله ولا تحصل على أي إجابة. وعندما يدخلان إلى مبنى شقتهما الجديدة، تلقي نظرة على المبنى الواقع في الجهة المقابِلة وتشاهد أمراً مريباً. على طول جدار من النوافذ الداكنة، يقف رجل (بيرن غورمان) ويحدّق بهما، لكنها لا تهتم به في تلك اللحظة.

سرعان ما تلاحظ وجود ذلك الرجل كلما نظرت من نافذتها، فيبدأ تخبّطها العاطفي وتجسّد مونرو هذا الجانب من الشخصية بأسلوب مقنع. يرتكز كل مشهد على الحدث الذي سبقه، إلى أن تصبح شخصية «جوليا» مختلفة بالكامل عن المرأة التي تعرّفنا عليها في بداية الفيلم، فهي تبدأ برؤية ذلك «المراقب» في كل مكان: هو يجلس وراءها خلال عرض مسرحي، ثم تشاهده مجدداً في متجر البقالة. تصاب «جوليا» في هذه المرحلة بهلع حقيقي. يقدّم «فرانسيس» الدعم لزوجته، أو يحاول دعمها على الأقل، لكنه يتفاجأ بمستوى التخبّط الذي وصلت إليه. هو يشعر بأنها تبالغ في ردة فعلها.

يتمحور الفيلم حول الارتباك السائد بين المتلصص وضحيته. تُبادله «جوليا» النظرات حين ينظر إليها. هي تشعر بوجوده وتراقبه أيضاً، وسرعان ما تتلاشى الحدود الفاصلة بينهما، فيتسلل إلى جميع لحظات حياتها. لكن يكمن الرعب الحقيقي في عدم ارتكاب أي جريمة. لا يمكن وضع الوقوف على النافذة والتحديق بمبنى آخر في خانة الجريمة. يُعتبر هذا السلوك جزءاً من حياة الناس في المدن. لكن تُذكّرنا الجوانب النفسية العميقة لدى هذه المرأة التائهة التي تعجز عن النوم، وتصاب بالهلوسات، ويستخف بها الرجل الذي يُفترض أن يدعمها، بفيلم Rosemary›s Baby (طفل روزماري)، ويشبه تركيز صانعي العمل على التصميم الداخلي (أبواب مفتوحة، زوايا مغلقة، مساحات شاسعة يصعب قطعها، مصاعد ضيقة) أسلوب المخرج رومان بولانسكي.

لكن تبقى شخصية «جوليا» سطحية. قد يتماشى هذا النوع من الشخصيات مع قصص التشويق، فهي تُعبّر عن مخاوف المشاهدين بدرجة معيّنة، لكنها تبدو شخصية مشفّرة وغامضة في الوقت نفسه. كانت «جوليا» ممثلة في السابق، ثم تخلّت عن طموحها لمرافقة زوجها إلى رومانيا. هل تحمل أي غضب كامن بسبب ما فعلته؟ هل كانت تمثّل في الأفلام أم المسرحيات؟ هل كان التمثيل مجرّد «طموح» عابر؟ ما الذي تخطط له الآن؟ لن نعرف الأجوبة على هذه الأسئلة. لكن يعوّض أداء مونرو عن هذه الثغرات في الشخصية، فهي تستعمل أسلوباً بسيطاً ومباشراً حين يبدأ الرعب بالتسلل إلى حياتها. لن يكون الخوف في هذه الحالة نوعاً من العواطف بقدر ما يصبح هجوماً على الذات ويترافق مع انهيار تام. تنجح مونرو في تجسيد هذه المشاعر كلها.

أخيراً، تتعدد «المواجهات» في الفيلم لكن تشتق معظم أجواء الرعب هذه المرة من المخاطر المجهولة. لا شيء يثير الرعب أكثر من المجهول لأن العقل قد يتخيّل جميع أنواع السيناريوات.


MISS 3