قد يصعب بلوغ مرحلة الإبداع الفكري، حتى لو مرّ بها الناس سابقاً. يبذل البشر قصارى جهدهم للوصول إلى هذه الحالة الذهنية الشهيرة، حتى لو اقتصرت أحياناً على بضع لحظات من الإنتاجية الممتعة والسلسة. تُعرَف هذه العملية بـ»تدفق الأفكار الإبداعية»، وهي تشير إلى ظاهرة نفسية حقيقية لا يفهمها العلماء بالكامل بعد. تسلّط دراسة جديدة في جامعة «دريكسل» الأميركية الضوء على ما يحصل داخل الدماغ البشري خلال هذه العملية وتطرح أفكاراً حول كيفية بلوغ تلك المرحلة من الإبداع.
تشير الدراسة إلى عاملَين أساسيَين وراء تدفق الأفكار الإبداعية: اكتساب خبرة واسعة في نشاط معيّن، والتخلي عن سيطرة الوعي.
مع مرور الوقت، تغذي التجارب العميقة شبكة من المناطق الدماغية القادرة على إنتاج الأفكار التي يبحث عنها الناس. في المقابل، يسمح التخلي عن قوة الوعي لتلك الشبكة بفرض سيطرتها.
أراد الباحثون في الدراسة الجديدة أن يكتشفوا طبيعة ذلك التدفق الإبداعي. يعتبره البعض حالة من التركيز الفائق الذي يلغي مصادر الإلهاء الأخرى، ما يؤدي إلى رفع مستوى الأداء عند القيام بمهمّة معينة. لكن يظن الفرد الذي يختبر هذه العملية أنها شكل من الاسترخاء وإطلاق العنان للذات.
لاختبار هاتين الفرضيتَين، استعان الباحثون بـ32 عازف غيتار، وأخضعوهم لتخطيط الدماغ الكهربائي، وطلبوا من كل واحد منهم ارتجال ست أغاني جاز، تزامناً مع تشغيل الطبول والآلات الوترية والبيانو بطريقة مبرمجة. ثم قيّم عازفو الغيتار قوة تجربتهم الإبداعية.
حصل الباحثون في النهاية على 192 تسجيلاً للألحان التي ارتجلها عازفو الغيتار، علماً أنهم عادوا وعزفوها فردياً أمام أربعة خبراء في موسيقى الجاز، فقيّم هؤلاء مستوى إبداعهم ومزايا أخرى لديهم. كذلك، حلل العلماء نتائج التخطيط الكهربائي للدماغ لتحديد الأجزاء الدماغية المرتبطة بعمليات الارتجال الأكثر إبداعاً. تبيّن أن العازفين الذين يحملون أكبر خبرة في مجالهم سجلوا أقوى اللحظات الإبداعية المتكررة مقارنةً بالعازفين الأقل خبرة. تُعتبر الخبرة إذاً جزءاً من أسرار الإبداع، لكن لا تقف العملية عند هذا الحد.
يكشف التحليل الكهربائي للدماغ أيضاً تراجع النشاط في التلفيف الجبهي العلوي المرتبط بالسيطرة التنفيذية. تتماشى هذه النتيجة مع الفكرة القائلة إن تدفق الأفكار الإبداعية يرتكز جزئياً على تراجع سيطرة الوعي وإطلاق العنان للذات.