جيمي الزاخم

الأطفال العرب... وُلدوا وفي أفواههم ملعقةُ حرب وتعب

23 آذار 2024

02 : 00

يتضرّعون إلى الحياة

يا طفلي الّذي لن يأتي، من تصدّق؟ كتب مدرسيّة تُطمئنك أنّ حقَّك بالحياة والأمان مكفول؟ أم صور المجازر ودموعها؟ أطفالٌ يكبرون بتوقيت قهر وظلم حروبٍ تتوارثُها منطقتُنا. هنا، يتحوّل حبلُ السّرة إلى حبل مشنقة. من على حبال أوجاع الطفولة والإنسانيّة، تجمع أفلامٌ حكاياها. لن ندخل بمفاصل هذه الأعمال وإشكاليّاتها. لن نشرّحها بالنّقد والحبكة. اخترناها كعيّنة. فهذه السطور ليست جردة لأفلام تلملم شظايا أطفال وُلدوا وملعقة الحرب في أفواههم.



في لبنان

كانت وما زالت الحربُ اللّبنانية ستوديو تغرف منه الأفلام السينمائية. فيلم «زوزو» (2005). يعود إلى الثمانينات. صبيّ يتهجّى مع أصدقائه أجسادَهم والجنسَ الآخر بعدما درسوا في كتاب الحرب والمعابر. يوميّات بين اللّعب والمدرسة، بين القصف والملجأ. يخترع زوزو صديقاً يُلبسه لساناً: صوص يبتعد معه عن طيف الحرب. لكنّها صاحبة القرار والدّمار. في يوم الهجرة إلى السّويد، يُقصَف المنزل وتموت العائلة. ينجو زوزو. يغادر إلى جدّيه في السّويد. بين بلاد الصراعات والأمن، تتشلّع أحلامُ الطفل. ولا تعوّض البلاد الآمنة الطفولةَ المحرومة من دفءٍ ملغوم بالخطر.

نبقى في الثمانينات مع فيلم «1982» (صدر عام 2019). في مدرسة تطلّ على مدينة بيروت، يصوَّر اليوم الدراسيّ الأخير واليوم الأوّل من الاجتياح الاسرائيلي للعاصمة. بين أسوار المدرسة، تلهو الأحلام بين أطفال من «الشّرقية» و»الغربيّة». وفي عيون وسام التلميذ، البراءة تبحث عن الحبّ في وجه زميلته جوانّا. بين هرج ومرج الحرب والمجهول، تتلامس الأصابع لتعزف مشاعرَ وأحلاماً بالأمان. هذا الأمان يسترخي على مقعد الباص. يعمّمُه وسام على الوطن مع شخصيّة كرتونية متخيَّلة. تبزغ من بحر بيروت لتغلّف المدينةَ وتحميها. فتستعيد عافيتَها.

ومع بيروت المعاصرة، وطأ فيلم «كفرناحوم» حرب الأطفال مع الفقر(2018). زين الرّفاعي طفل سوري هربت عائلته ولجأت إلى لبنان. هو من سلسلة أولاد يعيشون بين عماراتٍ صفراء مريضة وحبالِ غسيل تستلقي عليها أثوابُ التعب. عيونُهم لا تزرع البراءة ولا تحصد الطمأنينة. ثمارُ همومهم أثقل من أجسادهم. فيلم روائيّ توثيقيّ يودّع الكاميرا مع بسمة زين. أمّا في مرآة الواقع، فلن يلتقي ملايين الأزيان بهذه البسمة. غير أنّ مرآة الكاميرا ومشاركة الفيلم في مهرجانات وحصوله على جوائز، زرعت بسمةً حقيقية وغيّرت حياةَ زين الذي انتقل مع عائلته إلى النرويج البعيدة عن بلاده ومعاركها.

في سوريا

بعض آثار هذه المعارك وثّقها وثائقيّ Born in Syria. يرافق أطفالاً في هجرتهم إلى أوروبا عام 2015. يدخلون بحرَ المجهول ليخوضوا معاركَ من نوع آخر. 7 أطفال وعشرات الأحلام المتواضعة بمتابعة التعلّم، أو جمع شمل عائلة تشتّتت أو ماتت، أو الرغبة بالاندماج في مجتمع خالٍ من البرودة والدموع. شهدوا على حياةٍ «كبّرتهم قبل وقتهم». وعن داخل سوريا، يأتي الفيلم القصير «تالا فيزيون». استوحى مخرجُه الفكرة من خبر في جريدة عن منع تنظيم داعش السكان من امتلاكَ التلفزيون. التلفزيون والطفلة «تالا» هما البطلان. هو حلم تنتزعه من بين الرّكام. يحميها من ملامحَ حزينة تريد أن تطلّ على عالم بلا حرب. لكنّ الأخيرة صوتها أعلى: يُطفأ التلفزيون ويُكتم صوت حياة الوالد وتتحول الطفلة إلى مشرّدة.



أفلام وأطفال من المحيط إلى الخليج



في فلسطين

هذه الرحلة من التشرّد لازمت التاريخ في بقعتنا الشّرقيّة. فيلم فرحة (2021) يعود إلى نكبة فلسطين 1948. فتاة تتمنّى مستقبلاً زهرّياً كلون ثوبها. تريد متابعةَ حلمها ودراستها في المدينة. ولكن وكما كلّ القصص السابقة، الحرب تدخل وتُغيّر. يقتحم الجيش الاسرائيلي قريتَها. يُقفِل الوالد عليها في القبو ويخرج إلى سلاحه وموته. فتُنسى فرحة مع يوميّات من العطش والجوع. من شقوق الباب، تشاهِدُ الارتكابات وتسمع الويلات بعينين مكبّلتَيْن عن الفعل والحياة. فرحة لا تنال من اسمها حكاية. إنّها شرارة ونموذج عن طفولة وبلاد موصَدة بأبواب مشلّعة غير مشرَّعة. فرحة الحقيقية وصلت سوريا وعاشت هناك بعد تهجيرها مع مئات آلاف النساء من قُراهنّ. البعض وصلن غزّة. وَلَدْن أولاداً وأحفاداً يكرّر الزمن فعلته معهم باليد نفسها. يغوص الفيلمان الوثائقيّان Tears of gaza و Born in Gaza (دموع غزة- وُلد في غزة) في يوميات هؤلاء الأطفال إبّان عدوانَيْ 2008 و2014. هنا، أرواح مشوَّهة مليئة بشظايا. صِبيان وفَتيات يفتحون حياتَهم على اللاشيء وعلى كلّ شيء. يزورون مقابرَ أمست تدرّس مادّةَ الحياة التي تُكتب بطبشورٍ من تراب. بين حارات ومناطقَ غزة، أولادٌ يتضرّعون إلى الحياة بشفاعة لوح شوكولاتة يرافقُهم في مشاوير بين موت وموت. مات الكثيرون ويموتون وسيموتون فاتحين عيونهم لعلّهم يروْن طفولةً أغمضت أجفانها.

من المحيط الى الخليج 



أمّا بالنسبة للطفولة إبّان الثّورة الجزائرية، فإنّ فيلم «أولاد نوفمبر» (1975) ينبش قصةً حقيقيّة عن مراد بن صافي الذي تحوّل إلى مطلوب لدى القوّات الفرنسية. طفلٌ قويّ متمرّد يبيع الصحف ويشتري الوطن. صبيٌّ من إصرار وحرية يؤمن بها. ويحافظ على أمانتها حتّى مماته، بعد إلقاء القبض عليه. أمّا مواطنه السينمائيّ «أولاد الريح» (1980) فهو فيلم صامت رمزيّ عن أطفال ما بعد مجازر ارتكبها الاستعمار الفرنسي ضدّ قبيلة جزائرية. الأطفال يصنعون من حديد الأسلاك والحرب لعبةً وعربةً نحو حريّتهم ومستقبلهم. يُفتتح الفيلم بعبارة جبران خليل جبران «إنّ أبناءكم ما هم بأبنائكم. فقد ولدهم حنين الحياة إلى ذاتها». لكنّ حياتهم في كل هذه الأفلام قد لا تتسع للحياة وطعناتها.

نصل إلى العراق المطعون من عدّة حقبات وجِهات. فيلم «السلاحف تستطيع الطيران» (2005) يطير إلى خيم أطفال أكراد قبيل غزو 2003. ينتظرون أخبار الحرب لا الخبز. يجمعون خردة الحديد والأيّام. يفكّكون الألغام ليبيعوها في أسواق الأسلحة. أحلامهم مبتورة كأجسادهم التي فقدت أطرافها. قلوبهم تدقّ للحبّ. لكنّ طبول الحرب تغلب وترقص مع وجع خام لا يعترف بمسكّنات ويتوّج الذكريات.

ذكريات الأطفال والحروب تحضر في الفيلم الوثائقي «من ذاكرة الشمال» (2022) مع رجال ونساء سعوديّين يسترجعون طفولتهم في حرب الخليج الثانية. مرحلة طبعت جزءاً من شخصيتهم ومسيرتِهم. تكتب إحدى المشارِكات: «سيستيقظ هذا الطفل يوماً ما مهما حاولنا كبتَه. هو يتحيّن الفرص للظهور رغماً عنّا». فكيف يعيش مع حرب تترك ندوبَها حتى باسمها: قرّر والدٌ تسمية ابنته «حرب» لكنّ العائلة رفضت. كيف كانت ستسير باسمها على أقدام كل هذه اللعنات والتواريخ؟!

MISS 3