براين ميلاكوفسكي

بوتين... هو الخاسر وإن انتصر

9 نيسان 2022

المصدر: Foreign Affairs

02 : 05

دوريّة عسكريّة لجنود أوكرانيين في إقليم "دونباس"
في 25 آذار، أعلن نائب قائد الجيش الروسي أن غزو أوكرانيا، الذي بدأ منذ شهر، سيُركّز من الآن فصاعداً على المنطقة الشرقية حيث يحاول "تحرير" إقليم "دونباس". برأي عدد كبير من المراقبين الغربيين، كان الهدف من هذا التصريح واضحاً: في ظل تباطؤ العمليات الهجومية الروسية في محيط كييف وفي "خاركيف" ومدن أوكرانية كبرى أخرى وتكبّد القوات الروسية خسائر هائلة، كانت موسكو تحتاج إلى استعادة السيطرة على عمليتها. ويبدو أن التركيز على "دونباس"، حيث تقود روسيا الانفصاليين وتُسلّحهم وتقوّيهم في منطقتَي "دونيتسك" و"لوهانسك"، هو الحل المناسب لتحقيق هذا الهدف.

احتلّت المنطقة الشرقية منذ بداية الحرب أهمية خاصة بالنسبة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. بعد ثماني سنوات من القتال هناك، أصبح توسيع "الجمهوريتَين الشعبيتَين دونيتسك ولوهانسك" المدعومتَين من روسيا على طرف كل منطقة ضرورة إيديولوجية للزعيم الروسي. ترتفع نسبة شيوع اللغة الروسية في "دونباس" مقارنةً ببقية مناطق أوكرانيا. وحين بدأت موسكو غزوها الضمني للبلد في العام 2014، قدّم لها السكان دعماً كبيراً. وخلال الانتخابات منذ ذلك الحين، دعمت المنطقة الأحزاب الموالية لروسيا. كانت موسكو إذاً تستطيع ضم هذا الجزء من أوكرانيا إليها في أسرع وقت.

حاولت القوات الروسية طبعاً أن تستولي على المنطقة بسرعة. منذ إطلاق الغزو، تحركت روسيا بعدائية وانطلقت من جهات متعددة، فانبثقت من شبه جزيرة القرم في الجنوب لاحتلال ساحل بحر آزوف، ونزلت من الشمال عبر منطقة "سلوبودا أوكرانيا"، وشقّت طريقها غرباً عبر نهر "سيفرسكي دونتس" من أرض "لوهانسك" الانفصالية. قُتِل آلاف الناس من سكان "دونباس" خلال الاعتداءات الروسية، لا سيما في مدينـــة "ماريوبول" المحـــاصرة، وتحولت مدن كبرى إلى أنقاض.

لكن تبقـــى أي فرضيـات حول تراجع المصاعب التي تواجهها القوات الروسية في شرق أوكرانيا خاطئة. رغم الهجـوم العدائي، لم تسيطر موسكو على كامل المدن الكبرى في المنطقة، ولا تزال قوات الغزو الشمالية والجنوبية مضطرة لتجاوز خطوط عدة من الدفاعات الأوكرانية وقطع مئات الكيلومترات قبل أن يجتمع الجنود في مكان واحد، ويخوض الجيش الأوكراني معركة شاقة لمنع روسيا من تحقيق هدفها. وحتى في الأماكن التي سقطت بيد الروس، وجدت روسيا صعوبة في ترسيخ هيمنتها. يبقى دعم السكان المحليين محدوداً، فقد خرج عدد كبير منهم للاحتجاج على الاحتلال وعرّضوا أنفسهم بذلك للاعتقال والعنف أو حتى النزوح القسري.

كان الخليط غير المتوقع من المقاومة العسكرية والمدنية شرقاً كفيلاً بالتشكيك باستراتيجية روسيا الحربية. إذا كان البلد يعجز عن السيطرة على منطقة شرق أوكرانيا والاحتفاظ بها، من المستبعد إذاً أن ينجح في أي مكان آخر.

أعداء جدد

في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة في "لوهانسك"، توقعت موسكو أن تكون عمليتها سهلة نسبياً. قبل الغزو، كان معظم الناخبين في هذه المنطقة يميلون إلى دعم حزب "منصة المعارضة - من أجل الحياة" الموالي لروسيا بقيادة السياسي المقرّب من بوتين والهارب حالياً فيكتور ميدفيدتشوك. بدا وكأن الثقافة السياسية والخصائص الجغرافية هناك تضمن تفوّق روسيا.

في البداية، حققت القوات الروسية النجاح. تدفق الجنود من الحدود، واستولت مجموعات صغيرة من العناصر والدبابات الروسية على حكومات الإقليم بأقل قوة ممكنة. استفاد الجيش من هذا الوضع حين كان يحاول محاصرة مــدن "ليسيكانسك" و"روبيجنــــــــــي" و"سيفيرودونيتسك" التي تشمل حوالى 300 ألف نسمة. فجّرت مدفعيات ثقيلة الدفاعات الأوكرانية جنوباً انطلاقاً من المنطقة الانفصالية، وكادت تدمّر مدن تعدين الفحم الكئيبة في الوقت نفسه.

لكن اصطدمت الخطط الروسية مجدداً بقوة عزيمة السكان المحليين. في مختلف البلدات في "لوهانسك" الشمالية، تدفق السكان إلى الشوارع وهم يلوّحون بأعلام زرقاء وصفراء، وأعاقوا طريق المواكب العسكرية، ورفعوا شعارات موالية لأوكرانيا في وجه الجنود الروس وعملائهم الانفصاليين. وفي "ستاروبيلسك" المحتلة، ذهب المحتجون إلى حد تمزيق علم الجمهورية الشعبية الانفصالية أمام أنظار قوات الاحتلال الروسي. قال فاديم غاييف، رئيس بلدية "نوفوبسكوف" (بلدة هادئة بالقرب من الحدود الروسية)، إن الجنود الروس فتّشوا عن عميل خائن في الحكومة المحلية لإدارة المنطقة ولم يجدوا إلا مرشّحة واحدة: إنها شابة كانت تعمل في مكتب الخريطة الضريبية.

لكن ما الذي صعّب على الروس غزو "لوهانسك" واحتلالها لهذه الدرجة؟ باختصار، اصطدمت القوات الروسية والانفصالية سريعاً بالهوية الأوكرانية الأساسية في الإقليم، وهي نتاج قرون من الهجرة من وسط البلد. في "لوهانسك" الشمالية، تُستعمَل اللغة الأوكرانية ونسخة من لغة سورزيك الممزوجة مع الروسية. وعندما يتكلم المحتجون باللغة الروسية وحدها، غالباً ما يفعلون ذلك لتوجيه الشتائم إلى المحتلين. في الفترة الأخيرة، انتقل لاجئون موالون لأوكرانيا من الأجزاء التي يسيطر عليها الانفصاليون في "لوهانسك" إلى مناطق تحت سيطرة الحكومة، ما أدى إلى زيادة دعم المنطقة للعاصمة كييف. حتى أنّ السكان المتعاطفين مع روسيا لاحظوا إلى أي حد فشلت موسكو في إدارة الشؤون الاجتماعية والاقتصادية في الأراضي الانفصالية في آخر ثماني سنوات، وهذا ما يُضعِف أي دعم قد يعبّرون عنه اليوم للجنود الروس.

واجهت القوات الروسية مقاومة غير متوقعة، لذا لجأت إلى التكتيك الذي استعملته في "ماريوبول" وأماكن أخرى: العنف العشوائي. قصفت القوات الميدانية والطائرات الروسية "سيفيرودونيتسك" والمدن المحيطة وقتلت عدداً كبيراً من السكان. أنا شخصياً كنتُ أقيم في هذه المدينة في آخر ست سنوات، وقد شاهدتُ عبر شاشة هاتفي الذكي كيف تحوّلت واجهة متجر مألوف، وعيادة أطفال، وكنيسة، ومنزل أحد الجيران، إلى حُفَر وأنقاض سوداء.

وحتى في البلــدات والمدن التي نجحت القوات الروسية في احتلالها، اسـتمرت حملة الرعب الروسية ضد السكان المحليين. أخبرني أولكسي أرتيويخ، رئيس تحرير الموقع الإخباري المحلي "تريبون"، بأنه يتلقى شهادات يومية من "روبيجني" عن جنود روس يقال إنهم ينهبون الشقق ويسرقون السيارات ويغتصبون النساء. وفي "نوفوبسكوف"، فتحت قوات الاحتلال النار على المحتجين الداعمين لأوكرانيا وأصابت ثلاثة أشخاص على الأقل. كذلك، راحت القوات الروسية تعتقل منظّمي التظاهرات وتستجوب السكان وتخفي الناشطين.

لكنّ هذه الظروف لم تمنع موسكو من محاولة التلاعب بمنافع الاحتلال، بما في ذلك الإعفاء من ديون المرافق وتجديد وصلات سكك الحديد مع روسيا، وهي خطوات لم يتخذها الكرملين لصالح سكان المناطق الانفصالية في آخر ثماني سنوات. غالباً ما تكون "المنافع" عبارة عن فرض تغيّرات ثقافية إلزامية وتخفيض الأجور. بدأت روسيا تأمر المدارس باستعمال اللغة الروسية دون سواها واستبدال المنهج الأوكراني بآخر انفصالي يُمهّد لنيل شهادة لا تعترف بها إلا روسيا. كذلك، بدأ الروس يغيرون أسماء الشوارع ويعيدونها إلى الأسماء السوفياتية التي كانت مستعملة قبل صدور القانون الأوكراني لاجتثاث الشيوعية في العام 2014. هم يستبدلون عملة الهريفنيا الأوكرانية أيضاً بالروبل الروسي الخاضع للعقوبات. يقول مصدر في "ستاروبيلسك" المحتلة إن رواتب الأطباء في مستشفى البلدة ستتراجع بنسبة الثلثَين بسبب تبديل العملة وتدابير تخفيض الأجور.

إنه تحذير مسبق حول ما يمكن أن يحصل في المرحلة المقبلة. تبقى منطقة "لوهانسك" الشمالية أكبر مساحة تحتلها روسيا منذ بداية الغزو في شهر شباط، ويثبت مصيرها أن الانضمام إلى "جمهورية لوهانسك الشعبية" يعني التعرّض لترهيب الشرطة السرية، ومظاهر الشوفينية الروسية، وطقوس عبـــادة البضائع السوفياتيـة، وتداعيات التدهور الاقتصادي. حتى أن هذه الممارسات قد تصل إلى مسـتوى أسوأ مما اختبره سكان المناطق الانفصالية حتـى الآن. ستضطر روسيا في هذه المرحلة لإدارة أراضٍ محتلة أكبر حجماً رغم تراجع الموارد التي تملكها نتيجة العقوبات الهائلة وإلغاء عقود شراء النفط والغاز. حتى أنها قد تلجأ إلى تكثيف حملات القمع للحفاظ على سيطرتها وتقليص الخدمات الأساسية. لا عجب إذاً في أن يتحدى جزء كبير من الأوكرانيين الاحتلال.

بين الربح والخسارة

يثبت الدمار الهائل في "ماريوبول"، و"فولنوفخا"، و"سيفيرودونيتسك"، و"روبيجني"، ومدن شرقية أخرى، أن بوتين مُصمّم على إخضاع إقليم "دونباس"، حتى لو عنى ذلك ذبح أوكرانيين شرقيين موالين لروسيا ظاهرياً وإحراق ما تبقى من قوة روسيا الناعمة في المنطقة. أصبحت مصداقية الرئيس الروسي على المحك في "دونباس"، وهو يبدو مُصمّماً على حُكم أنقاضها بدل الاعتراف بالحماقة الجنونية التي ارتكبها حين اختار خوض هذه الحرب قبل أن يضطر للتراجع.

لكن كان رد شرق أوكرانيا لافتاً، فقد أطلق جيشها دفاعاً أقوى بكثير مما توقّعته روسيا، واحتجّ سكان المنطقة بكل شجاعة ضد محتلّيهم. نتيجةً لذلك، لن يترسخ الخطاب الإمبريالي الذي تستعمله موسكو لإقناع الرأي العام الروسي بصوابية الحرب في الأراضي الأوكرانية. زار عدد من منظّمي الحملات الدعائية الروسية من وسيلة إعلامية موالية للكرملين منطقة محتلة من "ماريوبول" في الفترة الأخيرة، وصُدِموا من ردود الأفعال الغاضبة من جانب نساء محليات يتكلمن اللغة الروسية على وقع صوت القصف الروسي المستمر. قالت إحداهنّ: "مدينتنا ماريوبول كانت قد بدأت تزدهر للتو. لقد بنينا طرقات جديدة وحدائق جديدة. بدأ علم المعادن يتطور هنا أيضاً، ثم جئتم أنتم الروس "لتحريرنا"!

ستُحدّد الأسابيع المقبلة مدى قدرة المقاومة الأوكرانية والأسلحة الغربية المتدفقة على وقف وحشية بوتين في "دونباس". لكن سبق وفضحت هذه الحرب الفكرة الروسية الوهمية المرتبطة برغبة الأوكرانيين المقموعين في التحرر. بغض النظر عما يحصل في ساحة المعركة، خسرت موسكو إلى الأبد ثقلها الثقافي وموقعها القوي في شرق البلد الذي كان ثنائي اللغة ومتعدد الجنسيات، لكنه أصبح اليوم أوكرانيّ الانتماء بكل وضوح.


MISS 3