جيمي الزاخم

حكايةُ الدمعة في العيون التّاريخية والإجتماعيّة والعلميّة

25 أيلول 2023

02 : 00

ترجمه إلى العربية عبد المنعم محجوب عام 2021

منذ حوالي الشهر، قُدّمت على أحد مسارح مدينة جدّة السعودية «ليلة الدموع». حضر مطربون بأصواتهم وأغانيهم المبلّلة كلاماً ولحناً وبحةً بالدمعة. دمعة الحزن، الشجن، الحنين، الخيبة، الخيانة تتسيّد فنونَنا وحياتَنا. شرّح البعض ماءها لننهلَ من حقيقةِ دموعنا. أبرزهم كان الكاتب الأكاديميّ الأميركي توم لوتز بكتابه الذي ترجمه إلى العربية الباحث والناقد اللغوي الليبيّ عبد المنعم المحجوب: «تاريخ البكاء: تاريخ الدموع الطبيعيّ والثقافيّ». يلحق الكتاب الدمعةَ إلى أوكارها. يرفعها بأيادي الدّراسات والأبحاث ليزيّن بها عينَ مجسّم تاريخي وعلميّ.



صفحات الكتاب تبدأ وتنتهي بسؤال طرحه رولان بارت: «من سيكتب تاريخَ الدموع؟». يحاول الكاتب الإجابة من خلال رحلة «ليست تأريخاً، لكنّها سلسلة من الحكايات». يعود بالحكاية إلى القرن 14 ق.م. في شمال غرب سوريا، عُثر على أقدم سجلٍّ مكتوب عن الدموع على ألواح طينية. الأسطورة تروي أنّ دموع شقيقة الإله بعل أعادته إلى الحياة. في مصر، الأمر مشابه مع إيزيس وشقيقها الإله أوزوريس. وفي الأسطورة الرومانية، دموع آلهة الفجر أورورا على ابنها المتوفّي تتحوّل إلى قطرات ندى. وكان الرومان القدماء يسكبون دموعهم في قوارير صغيرة تُدفن مع المتوفّي كتكريم له. السرد التاريخي يصل إلى الديانات السماوية. يركّز على المسيحيّة. الدموع نعمة وهبةٌ من الله. تحضرُ بالمزامير والصلوات. تصاحب التوبة والتضرّع. ربّما أشهر ما يختصر ويحيط بهذه النظرة، كلام ترنيمة «أعطنا ربّي» التي كتبها سعيد عقل: «تقبَّلْ ربّي قرابين حبي ورجائي وذلّتي ودموعي».

تتقدم نملةُ المعلومات في الصفحات حاملةً سيرةَ الدمعة وتكوينها العلميّ، مع تفاصيل تُشتّت التركيز وتتخطّى الدمعة إلى كيان الدماغ الواسع «الذي يضمّ 10 مليارات إلى تريليون خليّة عصبية وأكثر من مئة تريليون نقطة تشابك عصبيّة». جمع لوتز الدراسات عن أقسام الدماغ، ودور بعض الأعصاب بالإفراط بالدموع أو كبحها. في قرون قبل الميلاد، اعتقد الأبقراط أنّ الدماغَ منبعٌ للدمع. مذّاك بقيت الدمعة نقطة، لكنّ مفهومها فاض مع تطوّر العلم. عام 1662، تمّ تشريح رؤوس أغنام. «كان أوّل تشريح منقّح وكامل للدموع والغدد الدمعيّة». تشريح جهاز دمع الإنسان لم يتمّْ إلا في القرن الماضي. ففُهمت طبقاتُه وإفرازاته مع أنّ «علماء التشريح غير متفقين على مسار دقيق لبعض الالياف العصبية المتحكمة في الغدد الدمعية». مع بلوغ الخامسة والستين من العمر، يتقلصّ إنتاج هذه الغدد (المختلفة بين الرجال والنساء) إلى 60%. ويتدنّى إلى 30% في عمر الثمانين. فلا تُكحّل العين بالدمعة التي تحتوي كيميائياً وحيويّاً على بروتينات مضادة للبكتيريا، زيوت، أملاح، وغيرها من موادّ تشكّل الدمعة التي يختلف تركيبها حسب نوعها: الدموع غير الإرادية تنتج عن وخزٍ ما أو فرم البصل مثلاً، الدموع القاعدية هي دموع مستمرّة تليّن مُقل العيون، أمّا الحالات العاطفية فتسبب الدموع النفسية أو الانفعالية.

هذه الانفعالات الدمعيّة ومعانيها ترتبط بطبيعة التفاعل الاجتماعيّ. تُرسم هويتها في الكتاب مع لحظات سياسية، رياضية، في محاكم، معارك، مقابلات... الدمعة، وحسب مجتمعها وزمانها، تفيد أو تُضِرّ. كما تُحدَّد دلالتُها وقيمتها حسب جنس وعمر صاحبها. الدموع كانت محرَّمة على الرجال. تُعتبر من حِيَل النساء للوصول إلى هدفها. ودموع الرُضَّع، في بعض المعتقدات والثقافات، هي نذير شؤم أو إشارة إلى هطول المطر. وإذا كان المتوفّي طفلاً، يُمنع بكاء أهله لأنّ الدموع تحجب روحه عن الجنة. هذه الدموع المُسمّاة دموع الحداد تجول في الفصل الخامس من الكتاب. تعرّف على عادات مناطق قَبليَّة وحضرية. تختلف استجابة الإنسان للموت، وتتفاوت طقوس التشييع والحداد حسب المجتمعات: يلوّثون نفسهم بالتراب والروث، أو يسكبون دمهم فوق دمعهم بجَرحِ أجسادهم لتعزيز الرابط مع المتوفّي. بعض المناطق، يُحرّم على الدموع ملامسة الجثمان. وفي أخرى، تُذبح دجاجةٌ لطرد دمعة شوهدت على وجه الحاضرين. وكما تترأس الدمعة مراسمَ الحزن والحِداد، هي تبارك الأفراح. في بلاد أفريقية، إذا لم تَسِل الدمعة على وجه العروس، تُبلَّل عيناها باللُّعاب. هنا، الدمعة هي جزء من جهاز العروس وصكّ خجلها والأرجح... خوفها.




غلاف الكتاب بطبعته الأصلية


البكاء هو عينٌ وروحٌ وذاكرة. فالذاكرة المرتبطة بالدمعة تجرّ، مع كل استرجاع لها، دمعةً أخرى مقرونةً بمواقف، أماكن واشخاص. تطبع انفعالات هي بصمة متفرّدة مختومة بالدمع الأحمر. يفضّ لوتز الختم سيكولوجياً. يمرّره على المدارس النفسيّة وروّادها. يُعرّفنا على علاجات نفسية تعتمد على بكاء يتحوّل إلى «طاقة حيويّة». فالاحتباس الدمعيّ يؤدي إلى توتير الجسد وتحجيم الفكر. يطهّر الأكاديميّ الأميركي دورَ الدموع التطهيريّ، مع إزالتها السموم والفضلات. يستخرج الأخيرةَ من عيون مشاهدي الأفلام، الممثلين، الأدباء وقارئي الأعمال الأدبية. ويعصرها كلّها مع السيكولوجيا. هكذا يقدّم ذبيحةً تترأسها الدمعة. يتلو مزامير اجتماعية، نفسيّة، تاريخية، ثقافية، علميّة، وفنّية بصوت تخفت حرارة متعة متابعته أحياناً. لكنّه يعاود نشاطُه دون ضجر أو نعاس مرَّ أحياناً. نتغلّب عليه. ونتوحّد مع الدمعة التي شبّهها نيتشيه كشكل من أشكال الموسيقى بتأثيراتها في النفس الوجدانية. مع الكتاب، نشرب دموعنا مع الإلهة عنات شقيقة الإله بعل التي»شربت دموعها خمراً». نسكبها في كؤوس نفوسنا. نُدلّلها. نواجهُها. نُصارحها... على أمل ألّا نُشفى منها.


MISS 3