نجم الهاشم

في مقرّنا السرّي أقام عرفات وقرّر الخروج من بيروت... هذه تفاصيل المواجهة بين أبو عمار وحبش وحواتمة

الياس عطالله يروي محطات من تاريخ الحرب والحزب الشيوعي (1من 8)

20 كانون الأول 2023

02 : 00

الياس عطالله

تولّى الياس عطالله مسؤولية القيادة العسكرية في الحزب الشيوعي من العام 1980 حتى العام 1992 في ظلّ قيادة أمينه العام جورج حاوي، وعاش معه تفاصيل محطات كثيرة من تاريخ الحرب والأحداث اللبنانية، لكن لم يسبق له أن قدّم روايته الشاملة لها. في هذه الحلقات يروي عطالله قصته مع الحزب الشيوعي، وقصة الحزب مع الحرب والسوفيات، والعلاقة مع ياسر عرفات وكمال جنبلاط ومحسن إبراهيم والنظام السوري. ويستعرض عمليات جبهة المقاومة الوطنية وكيف انطلقت. والمواجهة الساخنة مع غازي كنعان التي تلاها اغتيال قياديين في الحزب. ويروي أسرار حرب طرابلس عام 1985، وحرب بيروت في شباط 1987، ومحاولة اغتيال العماد ميشال عون في 12 تشرين الأول 1990، والعلاقة مع القوات اللبنانية والدكتور سمير جعجع من المجلس الحربي إلى غدراس وفرنسا ومعراب، وصولاً إلى اغتيال جورج حاوي، والخروج من الحزب، وتأسيس اليسار الديمقراطي وثورة 14 آذار والخلاصات التي خرج بها من كل هذه التجارب. في هذه الحلقة يروي عطالله كيف لجأ ياسر عرفات إلى مقرّ الحزب السري خلال الإجتياح الإسرائيلي عام 1982 حيث التقى قادة الفصائل الفلسطينية واتّخذ القرار بالخروج من بيروت.



+ خلال حصار بيروت عام 1982 أين كنتم تختبئون؟ وكيف وصل لعندكم أبو عمّار؟

- قصفوه في منطقة طلعة الرفاعي - أبو حيدر، ولكنّهم لم يصيبوه. حاول أحد مرافقيه وكان عميلاً إسرائيلياً اغتياله ولكنّ مرافقه فتحي كان أسرع منه وقتله. حكى فتحي هذه الواقعة أمامي بحضور عرفات. كنا نحن الثلاثة. كنت واقفاً أمام مركزنا السرّي المستجدّ خلال الإجتياح الإسرائيلي، وكان في بناية المارينيان قرب مدخل مستشفى الجامعة الأميركية من فوق، وتبعد عنها نحو 80 متراً فقط. كان الطريق يفصل بيننا وبين المستشفى. كانت الساعة بين الرابعة والخامسة بعد الظهر وكنت واقفاً عند المدخل وإذا بعرفات يصل. ركضتُ إليه. وقلت له: أبو عمار شو عم تعمل هون؟ ركض فتحي وأخبر القصة. وقال: «الختيار بدّو يبات هون». في لحظة الخطر الشديد اختار عرفات أن يكون في مركزنا وأن ينام عندنا. كان المركز العسكري في الطابق السادس تحت الأرض.

+ كان سرّياً بالمطلق؟

- لم يكن من الممكن تأمين السرّية الدائمة بالمطلق. بمجرّد وجود عرفات يمكن أن ينكشف من خلال بعض الثرثرة والمراقبة. كنّا نعتبر أنّ وجود مستشفى الجامعة الأميركية بقربنا يشكّل لنا عنصر حماية وبالتالي لن يقصفوه. كنت أجهّز غرفتين واحدة لي وواحدة لجورج حاوي في الطابق السادس تحت الأرض حتى ننام فيهما وفصلناهما بفاصل خشبي. كانت الكهرباء مؤمّنة ويوجد مصعد وفوقنا سينما المارينيان. أتى عرفات ونام في غرفتي. خطر في بالي أن أنام على السطح. قلت ممكن أن يصل الخبر لإسرائيل وتقصف المبنى بقنبلة فراغية وأحسن شي نموت عالسطح وليس تحت الأنقاض. نمت على السطح.

+ أين نام جورج حاوي؟

- في الغرفة الثانية بجوار عرفات. كنا نعيش كل يوم كعائلة واحدة. بقي معنا عشرة أيام.

+ بمن كان يتّصل ومن كان يتواصل معه؟

- كانوا يأتون لعنده. أبو جهاد وابو أياد وسعد صايل وقادة آخرون غيرهم.

الإجتياح

+ بحثتم معه خلال تلك الأيام بموضوع الخروج من بيروت؟

- الحكي معه في هذا الموضوع بدأ قبل هذه المرحلة وقبل حصول الإجتياح. كان لديه قناعة بأن الإجتياح سيحصل.

+ كانت معلومات أم تحليلاً؟

- مؤشرات وتحليل وأخبار وأجواء. في 4 حزيران (1982) قصفت إسرائيل المدينة الرياضية وبدأ الإجتياح بعدها. قلت لأبو عمّار: قتالكم غير صحيح. تقاتلون كجيش نظامي عليكم توزيع المجموعات في القرى وفي المناطق. سقطت بسرعة المخيمات في الجنوب. كان لديه قناعة لست أدري من أين كوّنها وهي أن الإجتياح لن يصل إلى بيروت. قال لجورج ولي: «ما رح يقطعوا نهر الأوّلي». كان بارداً. قلنا له «غير صحيح. من غير الممكن أن يتوقّف شارون (وزير الدفاع الإسرائيلي) عند الأولي. لم يقُم بهذه العملية ليتوقّف هناك. من غير المعقول أن يزجّ بـ180 ألف عسكري وآلاف الدبابات والطائرات ليتوقّف عند الأوّلي». كان لدى عرفات 13 غرفة عمليات مجهّزة في بيروت. كان وحده تقريباً يعرفها كلّها. التقينا معه في أول غرفة ثم انتقلنا إلى غيرها. كلما قصفت واحدة ينتقل إلى أخرى. الغرفة الأولى كانت قرب جامع عبد الناصر مقابل شارع بربور. كان يستخدم المسطرة ويقيس على الخريطة ليحدّد أين صار الجيش الإسرائيلي. وصل خبر مشوّش بأن هناك إنزالاً عند مصبّ نهر الأولي، شمال صيدا، الأمر الذي يعني أنهم سيتجاوزون النهر. تفاجأ وصُعِق. اتصل بالحاج اسماعيل، مسؤول القوات الفلسطينية في الجنوب، وسأله: «يا حاج يا حاج وين صاروا؟». قال له اسماعيل: «اعطيني شوية وقت حتى حدِّد لك». اتصلت بأهلي في الرميلة. سألتهم: «شو؟» قالوا لي: «صاروا عند مدرسة الفرير وماشيين عالطريق». قلت لعرفات: «صاروا بوادي الزينة (بعد الرميلة باتجاه بيروت). لا تسأل الحاج اسماعيل». قال: «أكيد؟». قلت: «أكيد». تلبّك. كان قصف الطيران والمدافع لا يُحتمل. برّاً بحراً وجواً. آلاف القذائف والغارات. اختنقنا من الدخان ورائحة البارود.

+ كنتم تجتمعون معه قبل أن يأتي إليكم؟

- طبعاً

+ ما كان تقييمه للوضع العسكري وللإجتياح؟

ما كان عم يحكي بعد بالخروج من بيروت. كان منشغلاً جداً بالتحضيرات المكثّفة بالإتصالات مع الدول العربية. كان معه حقيبة فيها جهاز اتصال لاسلكي. يتّصل مع قادة الدول. السعودية ومصر والأردن وغيرها. ولكن كل تلك الإتصالات لم تؤدِّ إلى نتيجة.

+ شاركتم في القتال في بيروت؟

- طبعا. أهم معركة خضناها كحزب ضد إسرائيل كانت في محور ميدان سباق الخيل. قرر الإسرائيليون الدخول إلى بيروت عبر محور المتحف لعزل المخيمات، صبرا وشاتيلا، عن المدينة. تمركزنا في حفر فردية مع قاذفات ب7 وتصدّينا للمدرعات الإسرائيلية ودمّرنا عدداً منها فتراجعوا بعد مقتل أحد جنرالاتهم.

+ متى اطلعتم من عرفات على قرار الخروج من بيروت؟

- هو قال لنا كاشفاً عن اتصالاته مع فيليب حبيب (موفد الرئيس الأميركي رونالد ريغن). عقد اجتماعاً لقادة الفصائل لبحث هذا القرار عندنا.

+ كيف أبلغهم حتى يحضروا؟

- أنا بلّغتهم. كنت أعرف أين كانوا موجودين. أرسلت لهم من أبلغهم وطلب منهم الحضور. جورج حبش ونايف حواتمة وقادة الصاعقة والمنظمات الأخرى.

+ كان معروضاً عليه التوجّه إلى سوريا؟

- لا أعتقد. لم يذكر ذلك ولم يكن مطلقاً في هذا الوارد. حافظ الأسد خياره الأساسي القضاء على القرار الفلسطيني المستقلّ، أي عرفات و»فتح». في ذلك الإجتماع لم يقرّر عرفات التوجّه إلى أي دولة عربية. «نطلع في البواخر ومنشوف وين منروح».

قرار الخروج

+ لماذا؟

- لأنّهم اعتبروا أن العرب تركوهم. كان هناك اقتراح بأن يذهبوا إلى جزيرة يونانية قبل أن يقرروا الذهاب إلى تونس.

+ متى تأكد قرار الخروج؟

- عندما أنجز الإتفاق مع فيليب حبيب. وذلك على خلفية أنّنا لم نعد قادرين على تحميل بيروت أكثر ممّا تستطيع أن تتحمّله. لم يقل لنا «اتفقنا». قال إنّنا نفكر بالخروج لأن المواجهة كانت تعني دمار بيروت وقتلنا كلنا.

+ حضرتم لقاءه مع قادة الفصائل لإبلاغهم بقرار الخروج من بيروت؟

- كنا حاضرين عندما اجتمعوا لاتخاذ القرار بمغادرة بيروت. في ذلك الإجتماع حاول نايف حواتمة وجورج حبش المزايدة على عرفات وتحدثا أكثر في البديهيات و»إنو ما منطلع». نظر اليهما عرفات وقال (باللهجة الفلسطينية المصرية): «فتحي. سجِّل عندك جورج حبش ونايف حواتمة باقيين في بيروت. ما تبلغوش فيليب حبيب إنهم فالّين». وأمسك بقبعته الروسية ونزعها عن رأسه وخبطها بالحيط. وتابع «يا (...) شو خسرانين إنتو هون. أنا خسران دولة. أنا خسران توقيع. أنا خسران شعب. إنتو إيه؟ بدكم تبقوا أبقوا». عندما استحقّوا الموقف قالوا إنّهم يخرجون.



عرفات وكمال جنبلاط وجورج حاوي ومحسن إبراهيم وتوفيق سلطان



+ فكرتم بالخروج معه؟ ماذا قلتم له؟

- قلنا له «نحن لا نتدخّل في قراراتكم». كان جورج حاوي ومحسن ابراهيم. كنّا صرنا متيقّنين أن لا جدوى من استمرار القتال وبقائهم في بيروت.

+ ماذا قررتم أن تفعلوا؟

- توارينا وأطلقنا إشارة الإستعداد للمجموعات السرّية. بقي سلاحنا معنا وتبلّغنا رسمياً من الجيش اللبناني أنّ الجيش الإسرائيلي لن يدخل إلى بيروت. أرسلوا لنا خبراً مع ضابط في المخابرات. طلبوا منّا إزالة المظاهر المسلّحة وتخبئة السلاح لأنّ الجيش اللبناني سيدخل. ولكن فات الجيش وفاتوا معه «القوات». وألصقوا صور بشير الجميل على بيتي في الرملة البيضا.

+ أين اختبأت؟

- في أحد البيوت السرّية. كنّا تحضّرنا لمواجهة هذه المرحلة. بدأت التحضير للمباشرة بالمقاومة منذ 3 تموز.

+ كيف؟

- صرت أفكّر بالمجموعات التي يمكن أن تَأمَنَ لها وتستطيع التواصل معها ومواصفات الشخص المطلوب أن يقوم بعمليات. الثقة بالشخص كانت متأتية من خلال المعرفة الشخصية به والتجارب معه. كان معي أحد مساعديّ من بيروت وهو معروف اليوم وصار خارج الحزب. وضعت خطة للعمل. كانت المجموعات تعدّ 21 مقاوماً مقسّمين على ستّ أو سبع مجموعات وكل مجموعة تضمّ ثلاثة أو أربعة مقاومين. استدعيت هؤلاء الأشخاص من بيروت ومن المناطق وكانوا من كل الطوائف وخصوصاً من المسيحيين. كانوا في الحزب وكنت أعرفهم من خلال مشاركاتهم في الأعمال العسكرية ولكنّهم لم يكونوا يحملون بطاقات حزبية. كانوا بمثابة أعضاء سرّيين في الحزب. صادقون ولا يكذبون. ساكتون ولكنّهم يعملون. ووزّعت عليهم الأسلحة المناسبة لمثل هذه العمليات. متفجّرات. قنابل يدوية. أسلحة فردية. قاذفات B7 وPKC ...

+ من أعطاكم السلاح؟ حركة «فتح»؟

- كان عندنا مخازن نقلناها من مكان إلى آخر من دون الإستعانة بآخرين. اتفقنا أن يختفي جورج حاوي وكنت أعرف مكانه. وضعت الخطة وأطلعته عليها وقلت له عملنا ما يلزم للبدء بالعمليات.

+ أين اختبأ؟

- في أحد البيوت السرّية في بيروت. كان عندنا عدد منها. بقينا في بيروت أنا وجورج وخليل الدبس. ثلاثة فقط من المكتب السياسي. الباقون راحوا على طرابلس وقسم ذهب إلى سوريا وقسم سافر إلى فرنسا. كنا 22 عضواً. خرج الآخرون على دفعات قبل أن تقفل طريق ضهر البيدر، وقبل حصار بيروت.

خلاف في الحزب

+ حصل خلاف داخل الحزب أم بسبب الحرب؟

- لا لا لم يحصل خلاف. أخذنا تفويضاً من القيادة بأن يكون القرار النهائي لنا أنا وجورج وخليل الدبس، يعني الموجودين في بيروت، في المركز.

+ لماذا خليل الدبس؟

- لأنّه لم يكن من المعروفين كثيراً خارج الحزب ولكنّه كان فعّالاً ودقيقاً ونفّاذاً. وهو من مشغرة وأكبر سنّاً بقليل من جورج.

+ ماذا فعلتم بعد اختيار المجموعات؟

- وزّعتهم. قلت لهم لا دور لكم إذا لم تدخل إسرائيل إلى بيروت. وإذا دخلت يواجه العسكر الدخول وبعدها يصير الدور لكم. وأبلغتهم بطريقة التواصل بيننا.

+ ما كانت الوسيلة؟

- صبي كان يعتبر فلتة. ذكي جدّاً ومتحرّك ويحفظ السرّ وغير معروف ولا يثير الشبهات. يعيش اليوم في فرنسا ويغنّي أوبّرا. كنت أكتب الرسائل على أوراق صغيرة ونضعها في أوراق أكبر وأعطيه إياها ويوصلها إلى الشخص المطلوب أن تصل إليه وهذا الشخص ينقلها بدوره إلى الشخص الآخر المعني بها. كل مجموعة فيها شخص يتمّ التواصل معه. دخل الجيش الإسرائيلي إلى بيروت ليل 16 أيلول بعد يومين من القتال وبعد اغتيال الشيخ بشير الجميل. في ذلك اليوم ومن بيت كمال جنبلاط في المصيطبة أعلن جورج حاوي ومحسن ابراهيم انطلاق المقاومة ولم يكن الإسرائيليون قد وصلوا بعد.

+ لماذا كانا وحدهما؟

- كان من المفترض أن يكون معهما هاشم علي محسن من «حزب العمل» التابع للجبهة الشعبية ولكنّه لم يتمكن من الوصول. كان اللقاء علنياً ودعيت وسائل الإعلام للتغطية.

يتبع في الحلقة الثانية يوم السبت -23 -12 2023

لا علاقة لـ»القومي» بعملية الويمبي

«الأرنب» السوفياتي طلب منّا انتخاب بشير

قال لي سولداتوف: أنت بدّك تحميني؟


MISS 3