علي مزرعاني أرشيف متنقّل. حيويّته ونشاطه يجعلانه مؤسّسة في فرد. وهذا يزيده قلقاً. فهو يتحرّك، في الوقت نفسه، في اتجاهات عدة: يوثّق الصحف والأخبار، يجمع الكتب والمطبوعات، يتابع الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية والأمنية في الجنوب ولبنان، ويصوّر، وإضافة إلى هذا، يؤرشف ما يوثّقه ويجمعه ويصوّره. ومع هذا كلّه يعد كتباً، ويضع تصوّرها الإخراجي الأولي، ويتابع مع المصمم تفاصيل العمل. والأصعب من ذلك، أنه هو، وحده، يبحث عن ناشر، وإذ لا يجد يتكبّد تكاليف الطباعة وأعبائها، ويتولى مهمة التوزيع إلى المكتبات. لهذا، ولكونه ينطلق من شغفه، ويتحمل تلك الأعباء، ويحفظ وثائق ومستندات مهمّة ونادرة في ظل غياب مؤسسات تقوم بذلك، هو يستحق التحية والتقدير. وفي هذا السياق يأتي الحوار معه.
ماذا في أرشيفك... ماذا تتابع وتوثّق؟
أوثق وأجمع الكتب التي تتناول جنوب لبنان من مختلف النواحي، التي صدرت اعتباراً من العام 1909. ويمكنني القول إن في حوزتي حوالى 90 في المئة منها، وتقدر بـ1500 كتاب وبلغات مختلفة. وهناك الجرائد والمجلات الصادرة في الجنوب، على الأقل نماذج منها، وكانت المطبوعتان الافتتاحيّتان هما «العرفان» التي صدرت في صيدا و»المرج» التي صدرت في مرجعيون، وانطلقتا في العام 1909.
وقد جمعت أرشيفاً صحفياً يتضمن معظم الأحداث السياسية والحربية والثقافية التي شهدها لبنان الجنوبي، اعتباراً من مطلع القرن العشرين ولغاية الآن، مع التركيز على مدينة النبطية حيث أسكن. بالإضافة إلى الصور المتعلقة بهذه الأحداث. وحالياً، مهتم بتوثيق الأحداث في جنوب لبنان، ويوميات مدينة النبطية، وكذلك العمل الحزبي في لبنان.
أعددت عدداً من الكتب التي تتضمن مجموعات من الوثائق والصور والمحفوظات لديك، ما هي؟
أصدرت حتى الآن ثلاثة عشر كتاباً، أولها «النبطية في الذاكرة 1860 - 1999»، وهو الكتاب الأول الذي يتناول مدينة النبطية من نواحيها كلها، ويتضمن 1000 صورة ووثيقة. وأصدرت كتاباً عن قضاء النبطية، وآخر عن تاريخ العمارة فيها، وكتاباً يتضمن ألف صورة بالأبيض والأسود بين عامي 1920 و1980، وأخيرا كتابي الجديد عن الحركة الثقافية والاجتماعية في النبطية ومنطقتها اعتباراً من العام 1805 حتى الآن. بالإضافة إلى كتاب عن وثائق الحزب الشيوعي في أرشيف الأمن العام، وكتاب توثيقي عن رسومات فنان الكاريكاتير نبيل قدوح، وكتاب مشترك مع الدكتور منذر جابر عن جريدة «جبل عامل» التي اصدرها الشيخ أحمد عارف الزين، مطلع القرن العشرين. وهو تحقيق عن أعداد الجريدة الـ43 قبل توقيفها من قِبل السلطات العثمانية. كذلك أصدرت فهرساً للكتب المطبوعة التي تناولت جنوب لبنان وجبل عامل الصادرة منذ بداية القرن العشرين. وما زلت أتابع توثيق الكتب الجديدة أو التي أكتشفها وغير موجودة في مكتبتي. وأصدرت كتاباً توثيقياً عن تاريخ مجلة «الجندي اللبناني» التي صدرت في العام 1942 وتاريخ الملصقات العسكرية الصادرة عن قيادة الجيش اللبناني. وقد أحببت أن يكون هذا الكتاب ذكرى خدمة 33 سنة في مؤسسة الجيش معظمها في مديرية التوجية، حيث كنت مراسلاً حربياً في منطقة لبنان الجنوبي، وتقاعدت في العام 2016.
ماذا لديك من كتب معدّة ولم تجد طريقها إلى النشر بعد؟
لديّ حالياً ثلاثة كتب جاهزة أبحث عن ناشر لها، وهي: «الصحافة الحزبية في لبنان 1920 - 2022»، و»الإعلام الفلسطيني في لبنان 1952 - 2022» و»غرافيتي هزّت لبنان» وهو توثيق بالصورة لمجموع الرسومات على جدران وسط بيروت خلال انتفاضة 17 تشرين الأول 2019.
ما الصعوبات التي تواجهها في عملية الأرشفة والتوثيق، والإعداد، والنشر؟
أبرز الصعوبات التي أواجهها خلال عملية التوثيق والأرشفة، هي عدم تعاون بعض من يملك وثيقة أو صورة. أجد صعوبة في الحصول ولو على نسخة منهما. ولكوني أعمل لوحدي، هناك إيجابيّات وهناك سلبيات، فمن جهة أعرف كيف أخزن المعلومات والصور وأين، ومن جهة أخرى إمكاناتي الفردية محدودة، إضافة إلى بعض الفوضى، التي تتعبني أحياناً وتعقّد علي عمليات البحث. ولكل كتاب أو موضوع أرشيفه الخاص. أما بالنسبة إلى الإعداد، فأنا شخصياً أقوم بإعداد الكتاب وإخراجه أولياً قبل أن يصل إلى المصمّم كي يجهزه للطباعة. ومعظم كتبي أقوم بطباعتها بعيداً عن دور النشر، وأوزّعها شخصيّاً للمكتبات التي تتولى تسويقها.
تعاونت مرة مع مؤرّخ هو الدكتور منذر جابر، كيف كان ذلك، وهل تجد أن عليك وأنت غارق في المتابعة بحاجة إلى مثل هذا التعاون أو العمل المؤسّسي؟
التعاون مع المؤرخ منذر جابر غِنى ويزيد المعرفة والخبرة، خصوصاً أنه متخصص أكاديميّاً وضليع في تاريخ جبل عامل ولبنان الجنوبي. وقد تعلمت منه كثيراً في كتبي الأخرى. وأرجع إليه دائماً كلما واجهتني مشكلة بحثية. وأجد لديه إجابات عن أسئلتي واستفساراتي الكثيرة.
كيف تعدّ كتبك، وما هي المنهجيات التوثيقية التي تعتمدها، انطلاقاً من تجارب كتبك؟
بالنسبة إلى إعداد كتبي، لا توجد منهجية معينة أو برنامج محدد، ولكن إعداد الكتاب مرتبط بالتراكم المعرفي والوثائقي الذي أكون قد بدأت به أو وجدت خميرة معينة له في مكتبتي أو أرشيفي. ومن ثم أبدأ بوضع الخطوط العريضة للكتاب أو الفهرس. وخلال العمل، أتابع البحث عن النواقص كي يخرج مكتملاً.
مثلاً، كتاب الصحافة الحزبية في لبنان، وهو جاهز للطباعة، بدأت من أرشيفي الخاص ومتابعاتي للأحزاب في لبنان وأنشطتها، فوجدت كمية لا بأس بها من الوثائق لدي، ووضعت الخطوط له وتابعت البحث عما ينقصني من معلومات أو مواد. وانتهى الكتاب عن توثيق عمل أو تأريخ مختصر لـ360 حزباً وحركة سياسية لبنانية، صدرت عنها مطبوعات أو صحف استطعت الحصول على معظمها، وقد بلغ المجموع حوالى 670 جريدة ومجلة ونشرة، بالإضافة إلى ملصقات وكتيبات وبيانات صادرة عنها. فكان عملاً هو الأول من نوعه في لبنان. وحالياً، لا يوجد سوى جريدة حزبية يومية واحدة ومجلة نصف شهرية ومجلة شهرية ورقية، كون معظم الأحزاب افتتحت مواقع ومنصات الكترونية تنقل أخبارها وتعبر عن رأيها السياسي.
مروحة اهتماماتك واسعة وأنشطتك متعددة، من التصوير إلى جمع الوثائق، لماذا لم تحدد حقلاً أو نوعاً؟
بدأت بكتابة اليوميات الحربية والأحداث، ثم تبعتها بالتقاط الصورة للأحداث، وبعد ذلك بدأت بشراء الصحف، فهذه الأمور الثلاثة مترابطة للتوثيق والأرشفة. بدأت هذا النشاط من دون قصد أو هدف معين. ومع الوقت، صرت أعي أهمية التوثيق، لأن هذا العمل مهم لكتابة التاريخ. ولكن، تبقى الصورة هي الأحب والأقرب إليّ، لأن أهميتها توازي نصاً بكامله، وهي تغني أحيانا عن موضوع أو نص، إذا أحسنا قراءتها واستعمالها.
إن ترتيب الملفات يخضع للتسلسل الزمني وللمواضيع التي أوثقها. ولكن تركيزي هو توثيق الأحداث الأمنية والسياسية في لبنان الجنوبي.
أنت شخص تقوم بمهمة تحتاج إلى مؤسّسات، لماذا تفعل ذلك ومنذ متى؟
صحيح أنني أقوم بمهمات تحتاج إلى مؤسسة، ولكن شغفي بهذا العمل، و»طول البال»، يسهلان عليّ الأمر. واعتبر ما أقوم به هواية محببة ومفيدة، ولكن بحاجة إلى أوقات وليس إلى وقت واحد. فأنا أتابع وأوثّق الصحف والمواقع الإلكترونية والأنشطة والأحداث الأمنية.
وقد وفرت المواقع الالكترونية عليّ تعباً وزيارات لمواقع الأحداث، وخصوصاً في هذه الظروف الصعبة، على الرغم من أنني أفضل القيام بالعمل بنفسي، لكي أحصل على النتيجة الحقيقية، من دون الاتكال على أحد.
بصراحة، أعتبر القيام بهذا العمل المتعب منذ العام 1978 واجباً فرضته على نفسي لتوثيق تاريخ منطقة وكتابته، في غياب أي مؤسسة تقوم بهذا العمل. وقد كانت المؤسسة الوحيدة التي تقوم بذلك هي «المركز العربي للمعلومات» التابع لجريدة «السفير»، وقد توقف معها.
تحتاج متابعتك لكل ما توثّقه إلى نفقات... ماذا تفعل لتوفير التكاليف وأنت موظّف متقاعد، وكيف انعكست الأزمة الاقتصادية والمالية على نشاطك؟
طبعاً، الوضع الاقتصادي أثّر على عملي، ولكنني استمررت مع تخفيف الملفات أو المواضيع التي كنت أتابعها. والعمل حالياً كما كان في السابق في المنزل.
لقد إضطررت إلى بيع جزء من مكتبتي وأرشيفي لأتابع عملي التوثيقي والمعيشي، لأن لا أحد يهتم بدعم هكذا أعمال في هذا الزمن.
كنز وغرفة عمليات
يروي علي مزرعاني أن شغفه التوثيقي بدأ حين جذبته الصور في القصص المدرسية. كان في المرحلة الابتدائية، وكان والده «يأتي بالصحف والمجلات السياسية والمصورة، فكنت أسترق النظر إليها كأنها كنز أو لغز استكشفه. بعد ذلك، في المرحلة المتوسطة، بدأت كتابة يومياتي البسيطة، التي تحولت إلى نوع من التوثيق للأحداث في النبطية، وخصوصاً الاعتداءات الإسرائيلية والمشاكل الداخلية بين المنظمات الفلسطينية والأحزاب اللبنانية. بعد ذلك، في العام 1978، حصلت على كاميرا وبدأت توثيق الأحداث، تصويراً وكتابة وتوثيقاً من الصحف. واستمررت بذلك حتى اليوم».
يجمع مزرعاني «كنزه» في المنزل، وقد تحوّلت غرفة مكتبته الخاصة إلى «غرفة عمليّات»، كما يسمّيها. وقد بدأ يستعين بالكمبيوتر، «كونه يخفف المساحات الورقية، وحولت جزءاً من أرشيفي إلى ديجيتال لتسهيل التعامل معه. وقمت بترتيبه بحسب السنوات والمواضيع».
ويعمل مزرعاني وحيداً، يقول: « للأسف، في منطقتنا، لا أحد يهتم مثلي بأرشفة الأحداث أو اليوميات، ولا مؤسسات متخصصة بهذه المواضيع وحفظ الذاكرة الشعبية والأحداث والصور والوثائق. لعل هناك شخصاً أو اثنين، في النبطية، لديهما الاهتمام نفسه، ولكن على نطاق ضيق، وأتواصل معهما وأشجّعهما، لأن التوثيق يحتاج إلى استمرارية، ولأنني لم أجد مَن يعلمني ويوجهني ويساعدني، فأنا علّمت نفسي واستطعت أن أُنجز مؤلفاتٍ نتيجة الجَمع والبحث والتوثيق. فالكتاب يحفظ الذاكرة من الضياع والتشويه، ويعيش أكثر من المحفوظات الشخصية».