حسان الزين

توجهان يقيّدان الإحتجاج والإعتراض

17 شباط 2024

02 : 02

ثمة توجّهان في تيّار الاحتجاج والاعتراض على النظام وقوى السلطة وسياساتها وممارساتها:

الأوّل ذو موروث يساري وقومي يقدّم البعد الاجتماعي والاقتصادي و»مشروع بناء الدولة»، ويؤخّر «المعطى» الطائفي والهويّاتي. وما زال على موقفه الذي صِيغ تحت تأثير القوى القومية العربية ومدّها وأيديولوجيّاتها وسياساتها العابرة للحدود «المصطنعة». ثم بعد هزيمة 1967، تحدّث هذا الموروث تحت تأثير الثورة الفلسطينية و»الحركة الوطنية اللبنانية» التي دخلت الحرب (1975) ضد «المارونية السياسية» وتوجّهاتها الخارجية والداخلية ونظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي «الطبقي» و»التمييزي»، وفي مطلع الحرب اقترحت «مشروعاً إصلاحيّاً مرحليّاً» مزج ما بين «نقد» الزعيم كمال جنبلاط لـ»النظام الطائفي اللإنساني واللاعربي» وبين التوجهات اليسارية والوطنية والمدنية. وفيما ما زال، هذا التوجّه، يكرر شعارات «إسقاط النظام الطائفي» و»إلغاء الطائفية السياسية» و»لبنان دائرة انتخابية واحدة»، زاوج عقائده وخطابه وحركته، بنسب متفاوتة، مع ثقافة «المجتمع المدني» والحركات الاجتماعية.

الثاني ذو موروث أيديولوجي وسياسي لبناني، أو لبنانوي (متمركز حول جبل لبنان وبيروت)، يقدّم البعد الهويّاتي الطائفي، السياسي، ويؤخّر البعد الاجتماعي- الاقتصادي. ومن خلال أولويّته هذه، يرى مشروع بناء الدولة كصياغة، أو إعادة صياغة، للمكوّنات الطائفية وأدوارها وتأثيراتها وحصصها، وكخيار لعلاقاته الخارجية. ومن أولويته هذه أيضاً، يرى أنّ «حزب الله» ميليشياتٌ خارج الدولة وأنه ذراع إقليمية لإيران. وهذا التوجّه طيفٌ متعدّدُ المشارب العقائدية والسياسية، من تجربة «الجبهة اللبنانية» وخطابها إلى «مقاومة الاحتلال السوري» إلى تحالف «14 آذار» بقواه وزعاماته المذهبية، والذي ضم شخصيّات وحركة يسارية ديمقراطية، إلى معارضي عهد ميشال عون و»التيار الوطني الحر» وهيمنة «حزب الله» و»الاحتلال الإيراني». وفيما يكرر، هذا التوجّه، شعاري «السيادة» والحياد»، في وجه «حزب الله» ومحوره، يرفع الهوية العربية. وفيما يؤمن بالحداثة ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة والخاصّة، يميل إلى نظم انتخابية تأخذ بالاعتبار التمثيل المذهبي. وضمن هذا التوجه، هناك أصوات فيدرالية متعددة الاقتراحات.

وليس هذا الفارقُ سهلاً، بل هو فالقٌ أسهم ويسهم في شرخ تيار الاحتجاج والاعتراض. وهذا الأمر مؤذٍ، أولاً نظراً إلى تأثيره في منع الحوار وتوسيع الفرقة وزيادة التشتت، وبالتالي عدم إنتاج مشروع فكري وبرنامج سياسي وإطار تنظيمي (أو أكثر)؛ وثانياً نظراً إلى إهدائه هذين التوجّهين وتشكيلاتهما ومجموعاتهما وأفرادهما إلى قطبي الصراع في لبنان والإقليم والعالم، وبالتالي يفقدهما أي دينامية سياسية خاصّة. وأكثر من ذلك، إن هذا الفارق - الفالق يضع هذين التوجّهين في المخرطة المذهبيّة - الإقليمية - الدولية وخريطتها، التي فرزت اللبنانيين منذ جمهورية الاستقلال وحربها الأهلية - الإقليمية - الدولية الأولى في 1958، ثم حربها الثانية، الأهلية - الإقليمية - الدولية، في 1975، مروراً أو وصولاً إلى الإنقسام العمودي في 2005، بين 8 و14 آذار، وهو أهلي- إقليمي- دولي أيضاً.

الملاحظة على هذين التوجّهين ليست في أنهما لم يتوحّدا وينتجا قيادة كما يذهب كثيرون. الملاحظة في أنّهما لم يتحاورا، في الأقل كما يجب، بل على العكس، أسهما ليس في الفرز وتوسيع الشقاق وزيادة التشتت فحسب، بل في عدم التحرر من موروثيهما، أو في مراجعتهما. وقد كان أمامهما فرصة ذهبية لذلك، هي 17 تشرين الأول 2019، والانهيار الاقتصادي والأزمة الاجتماعية والمعيشية والأمنية والسياسية. وما زالت الفرصة قائمة والحاجة ملحّة، في ظل استمرار الانهيار والأزمة واستمرار قوى السلطة في نهجها وتعليقها لبنان ودولته واقتصاده ومجتمعه في الفراغ والمجهول، إضافة إلى المخاطر المحدقة بلبنان.

ليس ما تقدّم تمهيداً لدعوة توفيقية أو تكراراً لخطاب أبو ملحم والقبل الفولكلورية اللبنانية. الأمر ينطلق من إحساس بضرورة مواكبة المتغيّرات في العالم، وبضرورة فحص العدة المفاهيمية والخطابية المتحكّمة بالتوجّهين، والتي باتت قديمة وقاصرة وانتقائية، وعقائدية أكثر مما هي سياسية وواقعية. فمن دون هذه المراجعة للخطابات الموروثة وتجاربها وصلاحيّتها ومواكبتها المتغيرات والواقع ونتائجها واستجابتها للحاجات الوطنية والاجتماعية والثقافية، سيبقى الاحتجاج والاعتراض عالقين في دوّامة لبنان القديم وخطاباته وشبكة قواه، من الإمارة إلى الطائف، إلى الانقلاب على الطائف، إلى الفراغ والمجهول والخطر.

كأنّ الأمر يقتضي شجاعة، لا للارتقاء من الاحتجاج والاعتراض إلى معارضة فحسب، ولا لفحص الخطابات ومراجعة التجارب فحسب، بل ليكون التحليل والرأي والموقف، أي العقل والإنسان، وليكون المشروع والبرنامج والإطار، أي الرؤية والعمل والأداة، من أبناء اليوم والغد، لا الأمس، القريب أو البعيد.

MISS 3